مقال عن فيلم "منازل بلا أبواب" في موقع الجزيرة الوثائقية، بقلم محمد موسى
29/02/2016
الكاتب: محمد موسى
بالكاد تغادر كاميرا الفيلم التسجيلي "منازل بلا أبواب" Houses Without Doors للمخرج السوري أواديس كابرئيليان، شرفة الشقة التي كانت تُصوِّر منها في مدينة حلب السورية. والتي ستكون الإطلالة التي يعاين منها المخرج أحوال مدينته. ومنها سيوجِّه كاميرته أحياناُ على العائلة الصغيرة التي كان يسكن عندها. من تلك الشرفة يُصوِّر المخرج في مشاهد يضيق أُفقها تدريجياً عبر زمن الفيلم انزلاق المدينة البطيء إلى عنف لم تخرج منه لليوم.
تضيق عدسة المخرج وإلى درجات الاختناق والعتمة، وهي ترصد انهيارات المدينة على وقع نيران، كانت تقترب كزلزال من الحاضرة السورية. لا تواريخ أو تفاصيل في الفيلم السوري الصادم الذي عُرض في برنامج "فورم" في الدورة الأخيرة لمهرجان برلين السينمائي، حتى أن الفيلم بابتعاده عن التدوين أو الشرح، يبدو ككابوس، بسردية منفلتة متصاعدة مرعبة. أما أبطال هذا الكابوس، فهم عائلة سورية أرمنية، تجد نفسها على طريق التيه نفسه الذي سار عليه أسلافهم في القرنين الماضيين.
لن نعرف الكثير عن عائلة الفيلم، أو علاقتهم بمخرجه، لكنه على الأرجح أحد أبنائها، فالرجل المسِنّ كان يُعنفه بحرص الأب وقلقه، عندما كان يُصوِّر في الشرفة بكاميرته خوفاً من محاسبة النظام السوري في الفترة التي سبقت سقوط نصف المدينة تحت هيمنة الفصائل المسلحة. هناك إشارات أخرى تؤكد أن المخرج قريب من العائلة، كما بينّت تلك المشاهد العفوية التي صورّت سيدة المنزل في الفيلم أو في سلاسة المشاهد التي صورها لطفل العائلة. لا تعليقات في الخلفية تقود المشاهد عبر الانتقالات الزمنية، أو لتربط بين اليومي الذي كان يسجلّه الفيلم، بأحداث الخارج.
هناك حوار ينقله الفيلم باللغة الفرنسية بين رجلين لا نراهما على الشاشة، يرويان قصصاً مروِّعة من التاريخ الأرمني من بداية القرن العشرين، في خط للفيلم تقصّد أن يربط الحاضر لشخصياته بماضيهم الخاص. كما يستلهم العمل التسجيلي في بدايته مشاهد من فيلم الويسترن الغرائبي "آل توبا" (1970) للمخرج الأسباني أليخاندرو خودوروفسكي، ثم يعود ويختتم بمشاهد من الفيلم عينه، في خروج مُربك عن روح العمل التسجيلي وتكوينه الشكلي.
في المعلومات الصحفية الخاصة بالفيلم، يكشف المخرج أنه عاد إلى حلب في بداية 2011 ليكون قريباً من مواقع الأحداث، وليصوِّر مدينته التي تركها والناس الذين عرفهم في صباه. يربط المخرج بين تاريخ الأرمن وما يحصل في سوريا اليوم، إذ تبدو "حلب" كمحطة جديدة في رحلة الشقاء التي يقطعها شعبه منذ قرون. كما أن هناك رمزية تاريخية مهمة لحي الميادين الذي كان يصوِّر منه المخرج، ذلك أن الحي الحلبي كان المكان الأول الذي تجمع فيه المهاجرون الأرمن الذين كانوا يهربون من القمع التركي في بداية القرن الماضي، واتخذّه الكثير كمكان للسكن ولقرن كامل، قبل أن يرغموا على تركه في الأعوام القليلة الماضية.
وعلى الرغم من غياب الشروحات، إلا أن مساراً ما سيتشكل في الفيلم، كان ينبيء ويتجه نحو حدث عاصف، سيغير وإلى الأبد من حياة الشخصيات ويدفعها إلى وجهات جديدة بعيدة. فالفيلم الذي بدأ من الفترة التي كانت تسيطر بها الحكومة السورية على الوضع في البلد، سيتابع أثار اقتراب المسلحِّين من أطرافها على الحياة اليومية في الشارع الذي تطلّ عليه شرفة الشقة، وسيلتقط التأزُّم والخواء في الحياة اليومية للعائلة. في حين ينقل جهاز التلفزيون المفتوح في صالة الشقة، نشرة أخبار سوداوية متواصلة تنذر بمستقبل مجهول قادم لا محالة. سينتهي هذا المسار بالعائلة وهي تغادر بيتها وتتجّه إلى العاصمة اللبنانية بيروت، والتي بدت عبر انعكاسات سلوكيات شخصيات الفيلم، بأنها ستكون محطة مؤقته فقط، وأن هناك طريقاً طويلاً مازال بانتظارها.
يُشَّكل المخرج فيلمه من مشاهد مراقبة صامتة لما يجري من حوله في ساعات فارقة من حياة المدينة وناسها. ويُطوِّر اتجاهاً فنيّاً قاتماً يقترب من الشاعرية، ينهل من المواد الفيلمية التي صوّرها بكاميرته المحدودة الجودة. يتحول الفيلم في مواقع إلى شاهد على لحظات مفصلية، ويغرق في مواقع أخرى بالأسى، عندما صور مثلاً زفافاً، صرنا نعرف أن حاضريه سيتوزعون على المنافي قريباً.
من موقعه العالي في الشرفة يصور المخرج أيضاً جنازة لشابة، وضعت صورة كبيرة لها على السيارة التي تحمل نعشها. لن نعرف ما إذا كانت تلك الشابة سقطت في العنف المتواصل هناك، لكنها جنازتها ستكون توديعا رمزيّا للأحلام والحياة السوية. يتغير مشهد الشارع تحت البناية التي كان يصور منها المخرج، فتتلاشي تدريجياً مظاهر الحياة اليومية الطبيعية، وتنطفيء أضواء الشارع، وتطفو الأزبال في كل مكان، ويتحول المشهد برمته إلى نسخة مؤسلبة كابوسية عن حياة سابقة.
من موقعنا اليوم من الحرب السورية، يمكن قراءة بعض مشاهد الفيلم، بأنها بلاغة صافية ونبوءات بالمستقبل، كالمشهد الذي يُظهر ستائر البيت وهي تتطاير بفعل الرياح، والذي جاء ضمن مجموعة من المشاهد التي كانت توطئ للاقتلاع القريب القادم للشخصيات. هناك أيضاً المشهد الطويل للأُمّ وهي تعدّ حقائب السفر. بصمت لكن بوجه يتفطر من الحزن، تضغط السيدة على محتويات الحقيبة كي تتمكن من إغلاقها. سنراها في مشهد لاحق في بناية مُنهكة في مكان ما في بيروت وبنظرة الحزن ذاتها. ينقل الفيلم ما تتركه الحرب على معالم المدن والأمكنة الحميمة، فيسجل في مشاهد متعددة متفرقة، انطفاء الحياة قرب مجموعة المحلات تحت البناية، وليغدو هذا أيضاً كناية بليغة عن الدمار الذي تجلبه الحروب معها.
يحقق الفيلم سبقاً على الأفلام التي سجلّت الأزمة السورية، بنقله للحياة اليومية لمدينة سورية قبيل تحولّها لساحة معركة في الحرب الممتدّة اليوم على طول البلاد. يتماهى بناء الفيلم ومقاربته مع حال شخصياته وعلاقتها بالأزمة، فيغيب عنه الرأي السياسي أو التعليقات الحادة. تُوفر المراقبة الحساسة للمخرج للحياة اليومية للعائلة، مادة أولية، سيستخلص منها لاحقاً فيلماً شديد الثراء والقسوة، يوجِّه فيه وبتجريبية عنيدة الانتباه إلى حال أغلبية السوريين الذين يراقبون منذ سنوات بصمت انهيار بلدهم وحيواتهم.
كما يثير الفيلم أسئلة وأمنيات عن مواد فيلمية ربما صورها سوريون عاديون أو محترفون لحياتهم اليومية في السنوات الأخيرة، تنتظر من يُحرِّرها من الكاميرات، ويطلقها إلى العالم، لتضاف إلى الصور المتراكمة للمحنة السورية.
رابط المقال على موقع الجزيرة الوثائقية: http://doc.aljazeera.net/cinema/2016/02/201622810232135543.html