مقال عن فيلم "نحنا ولاد المخيّم" على موقع الجزيرة الوثائقيّة
21/07/2017
الكاتب: محمد موسى
بعد عدد جيد من الأفلام التسجيلية المهمة التي وثقت بملحمية وقنوط يوميات من الثورة السورية، من بداياتها وحتى دخولها نفق العنف العالقة فيه حتى اليوم، والتي عُرضت العام الفائت، وَصَلَ أخيرًا إلى العروض المهرجانية السينمائية الدولية الفيلم التسجيلي الطويل الأول الذي يسجل بدايات ويوميات ومآلات الثورة ذاتها على حيوات أهل المخيمات الفلسطينية الكبيرة التي تقع على أطراف العاصمة السورية دمشق.
يُقدم المخرج السوري الفلسطيني الشاب سامر سلامة في فيلم "194، نحنا ولاد المخيم"، والذي عرض قبل أيام في الدورة الأخيرة لمهرجان " Visions du Réel" السويسري، حكاية داخل حكاية في عالم كان يموج بالبشارات وعلى مشارف انعطافات تاريخية حاسمة. صُور الفيلم في وقت قاتم من يوميات مخيمات اعتاد ناسها الأحلام والخيبات وعلى وقع قيامة بلد كان ينتفض، ويسجل سقوط القيم وتبدد الأحلام وولادة العنف. والأخير كان يقترب بحزم من بيوت اللاجئين، وسيشردهم في غضون عامين إلى منافي جديدة بعيدة.
يتشَّكل زمن الفيلم الجديد من أفلام صورّها المخرج شخصيًا أو عبر أصدقائه في مخيمات الفلسطينيين في دمشق، وأخرى من الأرشيف المتوافر من السنوات الخمس الأخيرة. فيما يبدأ زمن الفيلم قُبيل الثورة السورية، وينتهي مع هجرة أهل المخيمات الكبيرة، والتي تزامنت مع هجرة المخرج الشخصية، الذي انتقل حينها إلى لبنان، وبعدها إلى فرنسا حيث يعيش اليوم. في قلب الحكاية العامة، هناك أخرى خاصة نتبعها عبر زمن الفيلم الطويل (90 دقيقة)، عن الصداقة الحميمية التي ربطت المخرج بـ "حسان"، الشاب الفلسطيني المثقف، الذي سنشهد على محطات مفصلية من حياته، من قصة حبه وزواجه، وإصراره على البقاء في المخيم وبعد أن هجره أغلب أهله، وحتى المصير العنيف الذي كان ينتظره.
بعد بداية مرتبكة غلب عليها التشوش يعثر الفيلم على إيقاعه الخاص، والذي يقوده ويغلفه الحنين، إذ أن المخرج ينبش ويُقلب مادته المصورة ويعيد بنائها ليجعل منها وقفة طويلة على أطلال الماضي. هذا في الوقت الذي يأتي صوته في الخلفية ليقود المشاهد عبر نص نثري طويل هو الآخر، يقترب من الشعر ويستعيد الماضي من مسافة لازالت قريبة كثيرًا. يبدأ الفيلم بمشاهد لمخيم اليرموك في دمشق من قبل الأزمة، ويختتم من المخيم ذاته، بعد أن مرَّت عليه حرب شوارع مدمرة، وأُفرغ من معظم سكانه. بين البداية والنهاية يفتح المخرج نافذة نادرة على الكابوس الذي عاشته مخيمات دمشق لسنوات، والذي لم تتكشف كل تفاصيله بعد.
هناك خطان سرديان رئيسيان في الفيلم، إلى جانب ما يلتقطه من أصداء الحدث العام الذي كان يقترب من المخيمات الفلسطينية مثل طوفان مدمر: الأول عن المخرج نفسه، والذي يتم إستدعائه بعد بداية الثورة للخدمة في جيش التحرير الفلسطيني القريب من النظام السوري، والآخر عن "حسان" صديق المخرج، والذي يتشكل ببطء عبر زمن الفيلم "بورتريه" له. يوميات الشخصيتين الرئيستين ستتأثر بالثورة السورية، وسيضيق عالمهما، وينتهيان معًا في زمن ما في المنطقة المهجورة ذاتها من المخيم، قبل أن يتم إختطاف "حسان" من قبل جهة مجهولة، وهروب المخرج إلى خارج سوريا.
يرتكز الفيلم على مواد صورية متنوعة من حيث جودتها وغاياتها وظروف تصويرها، والتي ستشكل الأساس لهذه الوثيقة التسجيلية. لا يبدو أن هناك اهتمامًا فنيًا أو موضوعيًا أساسيًا شغل المخرج أثناء التصوير ولاعتبارات مفهومة كثيرًا. لكن هذا سيصعب وإلى حد ما من مساعي المخرج بأن يجعل الفيلم يدور في فلك أو حول شخصيات معينة بذاتها، حيث كانت تنقصه المادة الصورية والبحثية الكافية لأن يمنح شخصية "حسان" أو المخرج نفسه، الثراء المطلوب الذي يجعلها تهيمن على الفيلم. هذا في الوقت الذي كان لموقع المخرج خلف كاميراته لأغلب الوقت، ومن ثم حضوره عبر التعليق الصوتي الذي ألقاه بنفسه، الأثر الكبير من أن يغير موقعه النهائي من الفيلم، ويجعله راويًا للحكاية أكثر من كونه إحدى شخصياتها.
وكما هو الحال مع معظم الأفلام التسجيلية السورية الأخيرة، والتي إنطلقت من رغبات أصحابها بتسجيل ما يدور حولهم دون أن تكون هناك خططًا واضحة أو حتى نيات وقتها بتوظيف موادهم الصورية في مشاريع تسجيلية مستقبلية، بدأ البناء الفعليّ لهذا الفيلم في غرفة المونتاج، وهناك تم البحث وفهم المادة الصورية الضخمة، والخروج منها بالتالي بقراءة تبرز في قسم منها تناقضات وزيف ونهايات الواقع.
فالفيلم كان ينتقل من مشاهد لتدريبات عبثية تمامًا لشباب في جيش التحرير الفلسطيني، إلى لقاء عام لفصائل فلسطينية، حيث يتم تدوير بفجاجة كبيرة الخطاب القومي السلطوي المعروف ذاته. كما زادت مشاهد عمليات بناء لمبنى في المخيم والتي صورها المخرج، من التناقض بين فعل البناء وجنون الواقع الذي سينطلق قريبًا، في حين كانت مشاهد أطباق الفضائيات المنتشرة على سطح بيوت المخيم، تقترب من مجسّات خيالية للشخصيات لقراءة المستقبل، وهي التي كانت تبحث عن كوة في أفق كان ينغلق عليها.
على صعيد الأرشفة، هناك الكثير المهم والنادر الذي صوره وحفظه هذا الفيلم، خاصة من الحقبة الزمنية القليلة التي أعقبت الثورة في سوريا، وبعد أن فتح النظام هناك في خطوة لئيمة الحدود مع مرتفعات الجولان للفلسطينين في سوريا، الذين توهموا أن "ربيعًا عربيًا" آخرًا ينتظرهم هناك. يسجل الفيلم مسيرات تشييع ضخمة لفلسطينيين شباب قتلوا على الحدود مع الجولان في حوادث لم تصل بشكل واسع للإعلام الشعبي حينها. وهناك أيضًا المشاهد الصادمة الشديدة الندرة والقسوة لفلسطينيين مدنيين كانوا يهربون بالمئات من المخيم بعد أن وصلت الحرب الفعليّة إلى شوارعهم.
كما ينقل الفيلم بدايات وعي شخصياته بتحول الثورة إلى نزاع عسكري، واقتراب الأخير منهم ببطء، كما في المشهد الذي يصور كيف عبرت رصاصة غرفة الحمام في البيت الذي يعيش فيه "حسان"، والذي إنتهى من بنائه للتو، أو المشهد الآخر لجلسة سهر لأصدقاء المخرج، قطعها صوت إنفجارات بدت قريبة.
يختار "سلامة"، ومثل زملاء سوريين له من السنوات الأخيرة، أن يكتبوا ويعلقوا بأصواتهم في أفلامهم. وكأنهم يرغبون تزيين أعمالهم بشهادتهم المقروءة مدموغة ببصمة لغة عربية شاعرية، وهم الآتيين من خلفيات ثقافية وأدبية. بيد أن التعليق الصوتي في هذا الفيلم، كما في معظم الأعمال التسجيلية الأخيرة، يثقل العمل ويعرقل من سلاسته. إذ بدا النص العربي على فخامته وصدقة، في كينونة خاصة لا تتواءم دائمًا مع الصور التي تتعاقب على الشاشة. بل أن النص الذي كان يخبرنا أحيانًا بما يجب أن نشعر به، عَكر السكينة التي كانت مطلوبة لمشاهدة الصور البالغة القسوة والدلالة التي عرضها الفيلم.
الرّابط للمقال على موقع الجزيرة الوثائقيّة هنا