مقال في الميديل ايست اون لاين عن فيلم "انا آزرق" بقلم طارق ابو شقرا
21/10/2014
"حلمتُ بأنّي في مخيم اليرموك, غيرُ قادرٍ على الخروج منه, والناس في الداخل يسألونني: كيف دخلت إلى هنا ونحن محاصرون؟ كان لون الناس أزرق, وأنا لم تكن لديّ القدرة على الاستيقاظ. الصوت الوحيد الذي كنت أسمعه, كان صوت بيانو صديقي أيهم, الذي بقي داخل المخيم."
بهذه الكلمات يروي محمد نور أحمد أو (أبوغابي) كما يُعرّف عن نفسه (مخرج الفيلم) بلهجته الفلسطينية حلمه (أو كابوسه) الذي طالما رافقه منذ رحيله عن مخيم اليرموك في دمشق إلى لبنان. وهو الحلم (الكابوس) الذي يقوم على أساسه فيلمه التسجيلي الأوّل "أنا أزرق" (2014).
يبدأ الفيلم بلقطة لشارع اليرموك الرئيسي مع سيّارة إسعاف تتّجه بأقصى سرعة من عمق الشاشة إلى الجهة المقابلة حيث عُلّقَ عليها علم فلسطين ودوى صوت إنذارها في الأرجاء مع حركةٍ شبه طبيعية للمارّة.
وتتكرر فيما بعد لقطات تركّز على الضوء الأحمر لسيارة الإسعاف التي تجوب شوارع اليرموك. معلنةً بشكلٍ غير مباشر حالة الاحتضار التي يعاني منها أكبر مخيّمات سوريا للاجئين الفلسطينيين.
في مشهدٍ آخر تشييعٌ لشهيدٍ وُضعَ على عربةٍ اعتاد أهل اليرموك ودمشق عموماً على استخدامها في بيع الطعام, كأن يُوضع عليها مثلاً أنواع من الفاكهة أو قطع الذرة المسلوقة, إلاً أنهّا هذه المرّة استُخدمت في تشييع شهيدٍ قضى بسبب الجوع.
يسرد الراوي (المخرج) ذكرياته عن سنيه الطويلة التي عاشها في المخيم, يذكر أسماء أماكن معروفة لأهله, كما يتحدّث عن نشاطاتٍ طالما اعتاد هو – كما غيره من شباب اليرموك – على القيام بها. حديث الذكريات المفعم بالحياة هذا يترافق مع صورةٍ تكاد لا تبارح الفيلم, إنّها صورة شارع اليرموك بمحلاّته التجارية المغلقة وبعددٍ من مبانيه المهدّمة وبالسواتر الترابية التي ملأت مناطق التماس فيه. وقد أصبح مكاناً مهجوراً خالياً إلاّ من بعض سكّانه القلائل الذين رفضوا مغادرته, والذين يعيشون تحت وطأة الحصار والاشتباكات.
ينقل الفيلم هنا صورة عالمين مختلفين حتى التناقض, إنّها الحياة وقد امتلأت بالتفاصيل تتحوّل فجأة ودونما اكتراثٍ للذكريات والأحلام إلى موت أو مشارف موت. تتعدّى الذكريات هنا حالتها الشخصيّة الضيّقة, لتصبح ذكريات أشخاصٍ عن مكان وفي المقابل أيضاً ذكريات مكانٍ عن أشخاص.
ومن بين هذا التراكم المرير للصور السوداوية القاتمة يظهر بيانو, يجلس خلفه شاب يُدعى أيهم أحمد, بينما يقف أمامه مجموعة من شباب المخيّم حيث يشكّلون مع بعضهم (فرقة شباب اليرموك). تقوم الفرقة التي يصوّر الفيلم لقطاتٍ من أعمالها بتأليف أغانٍ تتناول بشكل رئيسي واقع المخيّم بعد حصاره. ويقومون بأداء أعمالهم وتصويرها في حارات وشوارع المخيّم.
تغنّي الفرقة إحدى أعمالها من أمام مستشفى فايز حلاوة في منتصف شارع اليرموك, تبدو الصورة حزينة إلاّ أنّها آسرة في الوقت نفسه. المستشفى المعروف في المخيّم وقد أمسى خراباً يقف أمامه مجموعة من الشباب مع بيانو, حيث يعطي وجود هذه الآلة الموسيقية الضخمة في هذا المكان إحساساً بالغرابة واللاواقعية. وفي منتصف أداء الأغنية تُسمع رشقات نارية إلاً أنّ العزف والغناء لا يتوقف.
تُحيلنا هذه الصورة إلى فكرة الحلم – الكابوس. وعلاقتها بالحياة في المخيم الآن. فالذكريات حلم جميل يقطعها كابوس الواقع الأسود الذي لا يلبث أن يُقطع بدوره عبر موسيقى البيانو الذي يجوب شوارع المخيّم ناشراً ألحانه كما سيارة الإسعاف التي لا تتوقف أيضاً عن السير في شوارعه ناشرةً موسيقى الكوابيس.
"لأنو ما قدران أفكر بشي ..عم فكّر بالموسيقى .. ما في مستقبل .. شو المستقبل؟" هكذا يتحدث أيهم عازف البيانو من اليرموك عبر السكايب. الموسيقى التي يلجأ إليها أيهم هرباً من كابوس المستقبل, يلجأ إليها أيضاً أبوغابي مخرج الفيلم والموسيقي الذي غادر سوريا منذ فترة , فنراه يغنّي في إحدى حفلاته: "هنا اليرموك .. يا قمراً .. فيمحو نوره .. ليل الحصار .. هنا اليرموك".
فيتماهى في الفيلم الواقع بالحلم (أو الكابوس), كما يتماهى الحلم بالكابوس, وتتماهى الأماكن التي ذهب إليها أبناء اليرموك في هجرتهم الثانية مع اليرموك نفسه.
مدّة الفيلم القصيرة (12 دقيقة) تحوي كمّاً هائلاً من الدفق العاطفي المفعم بالألم والحزن. لا يكتفي الفيلم بتقديمها لنا في مشاهده فقط, بل يتعدّى المشَاهِد إلى تتر النهاية, فبعد عرض الأسماء المُشارِكة في الفيلم تُطالعنا جملة أخيرة: "تمّ التصوير بكاميرا الشهيد حسان حسان" وهو الممثل الفلسطيني السوري الذي قضى شهيداً تحت التعذيب قبل حوالي العام.
"أنا أزرق" من الأفلام التي لن يُفلح توصيفها أبداً في نقل الكمّ الحسّي الجميل الذي تحمله. الفيلم من إنتاج "بدايات" و"رد فعل" اللتين تتيحان أفلامهما للجميع عبر موقع اليوتيوب.
رابط المقال: http://www.middle-east-online.com/?id=185664