المكتوب الآتي ليس من "الملف"، بل عنه، كما أنه ليس في "الملف"، بل، ولأنه بدأ من قبله، فها أنا أعلقه من بعده. هو، وببساطة، تعليق على شكل مقالة.
منذ أن دعاني الرفيق العزيز علي الأتاسي إلى المشاركة في "الملف"، الذي أعدته، مشكورةً، مؤسسة "بدايات"، وأنا أتساءل عن جدواه.
فها هم أصدقاء وصديقات أحمد غصين قد استخدموا "الملف" كمغسلة، ينظفون فيها سكوتهم وانتظارهم، وبينهما، مشاركتهم في "صد الهجوم من قبل المبلبلين والمدعين والمتفلسفين". وهذا، قبل أن يمرروا بأفعالهم هذه "جدار الصوت" إلى "البندقية"، وإلى جوائزه الثانوية، ثم يقلعوا عنها، جاعلين منها، وبطريقة كوميدية، ذنباً لا بد من التكفير عنه.
في الواقع، لا يمكن الحسم في كونهم قد بايعوا مع أحمد، وعلى نحوه، نظام المجزرة في سوريا لكي يستحصلوا على بعض من أثره، أي الدمار. ولكن، صار واضحاً أنهم ضمنوا إرسال فعلته هذه، وكفيلم، إلى العالم، حيث "سيدور، ويدور". بالتالي هم بايعوا الفعلة، أي نتيجة من أثر نظام المجزرة ذاته، وهذه مبايعة طرفية، ولأنها كذلك، لا شك في كون فداحتها كبيرة.
لكن، دعنا الآن منهم، فحتى لو أنهم تسللوا إلى "الملف"، فأقدموا على "استعارته" أو "إستعماله" أو "وراثته"، يعني، وبعبارة واحدة، القبض عليه، نافل هو غض النظر عنهم، وهذا، من أجل إمعانه قليلاً في التساؤل عن أثر الكلام، ومكتوبه، بعد الفعلة.
لقد ردد رفاق ورفيقات كثر أن لا حاجة إلى "الملف"، فالفعلة، التي يتناولها، ومنذ بدايتها حتى عقبها، الذي، وعلى ما يبدو، لا وجود له، هي فعلة جلية. لذا، كان حلها يستلزم، وبسهولة، شرح وتوضيح وقائعي من المعني بها، من أحمد، قبل أن يعتذر مباشرةً من السوريين.
ولكن، لا بأس، قراءة "الملف" جيدة، فغير أنها تتيح الإطلاع على مقالاته الجميلة، هي تعين على إدراك جانب من جوانب الخطاب الثقافي في البلاد، وجانب من جوانب اشتغاله تحديداً.
يصيب الرفاق والرفيقات إياهم في الإشارة إلى جلاء المسألة، ولهذا، ذلك الخطاب، وحين تناولها، لم يقدم سوى على إيضاح وضوحها: "الفعلة هي فعلة" (خالد صاغية)، "على بينة مسبقة منها، لم ننتبه إلى أن الفعلة فعلة، فبعضنا سخر، وبعضنا انصدم، لكن، عدنا ولاحظنا، وإذ هي حقاً فعلة، لقد فشل صانعها، وفشلنا" (سامر فرنجية)، "هذه الفعلة قابلة للمقاربة من زياراتي إلى مليتا" (رنا عيسى)، أو "من لبنان الممانع عموماً" (بلال خبيز).
إلا أن ماذا يعني أن يصنع الخطاب الثقافي موضوعه عبر إيضاح وضوحه، وماذا يعني أن يشتغل من أجل هذا؟
طبعاً، لا ضرورة للقول هنا، ومنعاً لأي خباثة، واحتراماً لكل حساسية، أنني لا أتحدث، وعلى طريقة رشا السلطي، عن "الكتاب الذين نحبهم"، بل عن ذلك الخطاب، الذي معلوم أنه نشيط قبلهم، لكنه، وفي مسألة "جدار الصوت"، مر عبر مقالاتهم. كما أتحدث عن محله من إعراب الفعلة، التي تطرقوا إليها.
هذا الخطاب، وحين يصنع الفعلة موضوعاً له بإيضاح وضوحها، ينطلق من كونها ليست كذلك، من كونها مبهمة في عيون الذين يتوجه إليهم، إذ أنه يقدمها لهم كي يشاهدوها. لكن، وبما أن الفعلة، في الواقع، واضحة مسبقاً، فالمشهد، الذي يضعها الخطاب فيه بواسطة إيضاحها لكي يقدمها لهم، يساوي الصورة المحروقة، أو ما تُطلق عليها الرطانة الفوتوغرافية تسمية "التصويرة المفحومة". إذ أن الضوء، ونتيجة مضاعفة الإيضاح، يصير كثيفاً للغاية فيها إلى درجة محيه لمضمونها. هكذا، تنتهي الفعلة إلى تحت السطح الأبيض لهذه التصويرة، وعلى هذا السطح، تظهر منه، ولكن، لكي تبقى فيه.
باختصار، الخطاب إياه يظهر الفعلة لمتلقيه هؤلاء على سبيل اختفائها، ولهذه الحالة مفعولين حيالهم: الأول، أن الفعلة، وحين تظهر لتختفي، وهذه آلية من آليات الاجتذاب الإعلامي، تتحول إلى بغية يريدونها. الثاني، أن، ولكي يرمون إليها، لا يجب أن يفتح وقعها عيونهم، بل أن يحافظ على انغلاقها، ما يعني أن الفعلة، في هذه الناحية، تصير "مَغْلَق" من "مَغْلَقات" هذه العيون. وعلى هذا الأساس، يقدمها ذلك الخطاب لكيلا يراها المتلقين، فيفتحون عيونهم، بل يشاهدها عنهم لكي يتفرجون عليها. إذ لا يدفعهم إلى التفرج على الفيلم، الذي صارت فيه، أقصد على "جدار الصوت"، بل إلى التفرج عليها كفيلم من.... تصويرة واحدة.
طبعاً، من المعروف أن هذا التفرج، وككل تفرج، يحمل، ومن شدته، إلى التماهي بوصفه إعادة إنتاج لموضوعه، وإكثار له. وفي هذه الجهة بالذات، تندرج تلك الجملة من "اللبنانيون ليسوا ديكوراً"، وهي أن "أحمد غصين لن يكون الأول في هذا المضمار، ولن يكون الأخير"، الذي، وفي ترتيبه، لن يكون حينها قد "استعجل الذهاب إلى سورية ليستعير صورها"، وهذه جملة أخرى من "طلع أو ما طلع؟". وفي هذه الجهة أيضاً، يلح سؤال محدد: كيف نتكلم ونفكر بعد حصول الفعلة كي لا تحصل من جديد؟ كيف لا نؤلف ذلك الخطاب خلال تكلمنا حولها وتفكرنا فيها لكيلا تعود وتحصل؟
فعلياً، تلك التصويرة الواحدة، "المفحومة"، لها رديف في "الملف"، رديف يبينها على أكمل وجه، وهذا، لو بدا أنه لا يوضح وضوح الفعلة، بل يعتمها. إذ أن إيضاح الوضوح يتطابق مع إعتامه، بحيث أن الإثنين يؤديان بالفعلة إلى اختفائها، مرة، بإظهارها، ومرة، بحجبها. فإذا كانت "الهروب من الخطيئة" هي المقالة المحورية، أي التي أدلت بكل شيء، في "الملف"، فمقالة "هذه الصور" (غسان سلهب) هي معنى الخطاب الذي يمر عبر "الملف"، وهي مقصد هذا الخطاب، وهي خلاصته: الفعلة "منذ الآن فصاعداً" هي التصويرة المحروقة، والتصويرة المحروقة هي الفعلة.
ولكن، كيف أوضح الخطاب وضوح الفعلة، كيف جعلها تصويرة محروقة؟
بسهولة، رطم ضوئه بضوء فيها، وهذا الضوء، في حال البحث عنه نصياً، من الممكن الوقوع عليه كعبارة متكررة في أرجاء الملف، أي عبارة "السياسة". بالطبع مرد تكرارها أن معظم كتاب المقالات يأتون إما من تحصيل أكاديمي مرتبط بالسياسة، وإما من تجربة فيها. لكن، مرده، أيضاً، يتعلق بأمر آخر، هو حاجة الخطاب إياه إلى آلة، وهي هنا السياسة، بحيث يستكمل بها اشتغاله حيال الفعلة، أي استكماله لجعلها "تصويرة محروقة".
فحين يقدمها على أساس أنها "سياسية"، وفقط "سياسية"، فهذا، عدا عن كونه اختزال لها، اختزال لا تبدده إضافة "أخلاقية"، إلا أنه ينطلق من كونها لم تكن، وقبل إلقاء ضوئه عليها، سياسية. ولكن، حين ألقى ضوء "السياسة" عليها، ولأن جانب السياسة فيها واضح، ارتطمت "سياسته" بسياستها، وصارت سياسة مفرطة. "تسييس" سياسة الفعلة هو نفسه إيضاح وضوحها، الإفراط في "تسييسها" هو نفسه الإفراط في إيضاحها، وعلى وجهيه، يجعلها تصويرة محروقة.
غير أن الخطاب، ولكي يتمم مصير الفعلة، لا بد أن يرجعها، وبفعل إفراطه في "تسييسها"، إلى مصدره، أي إلى الوسط السياسي اللبناني، إلى قسمته المنصرمة، 8 و14 آذار. ولكي ينجز إرجاعها، يتكئ على مقولة أن الوسط الفني ليس "سياسياً"، ولكن، هذه المقولة ليست دقيقة، بحيث أن الوسط اياه، وحتى لو لم يعلن ذلك، هو وسط "مسيس" بخطابها، وبقسمته الآذارية تلك، وهذا فعلياً ما يقضي على أي إمكان من إمكانات تسييسه.
على هذا النحو، "تسييس" الفعلة يعني تحويلها إلى موضوع من مواضيع انقسام الوسط، الذي، وفي إثرها، قد يصير إنقساماً معلناً: الوسط بمعسكرين، الأول، ممانع، والثاني، لاممانع، الأول، لا يجد في الفعلة فعلة، والثاني، على نقيضه، يجد فيها ذلك. أما، النتيجة: ينتصر المعسكر الغالب سلفاً، ويكتفي المعسكر المخفق سلفاً بترداد أنه فشل. تنتصر الفعلة، وتصير، وكما كانت منذ البداية، قانوناً عابراً للمعسكرين، لمعسكر سهَل تحقيقها لأنه مقترف لبها، أي الدمار، ومعسكر انتظر لتمر في الفيلم إلى عرضه، قبل أن يقلع عن الانتظار، وبهذا، يتكشف عن كونه "نيوممانع". فالفعلة هي قانون الممانعة في "جو" الممانعة كما أنها قانونها في "جو" اللاممانعة.
لقد أحسن أحمد الإلتزام بهذا القانون، مقدماً نسخة جديدة من "الفن الملتزم"، وها هو وسطه يهبه مكافأة بقلب فعلته إلى منصب: إدارة "مركز بيروت للفن" مناصفةً. فمبروك للممانعة في كلا المعسكرين، مبروك للممانعة القديمة والجديدة.
لقد قال لي رفاق ورفيقات كثر أنني أضعت جهدي ووقتي سدى في طرح مسألة "جدار الصوت"، وهم، في الحقيقة، يصيبون. لكن، أي يكن، لا أسف، فعلينا، وفي لحظات بعينها، أن نقدم على ذلك الفعل المهيب، الذي علمنا إياه نيتشه: أن ننظر إلى الهاوية، ونرمي الورود، ورود الكلام فيها، شاكرين الوحش الذي لم ينجح في التهامنا.
شكراً بيروت الثقافية والفنية أينما كنتِ!