ثمة نقاش يتداوله هذه الأسابيع بعض الاوساط الثقافية في بيروت، ويتعلق بفيلم جدار الصوت ("كل هذا النصر" باللغة الانكليزية)، ولأنني من القلائل الذين شاهدوا الفيلم وعلى نقاش دائم مع مخرج الفيلم احمد غصين وعلى الرغم من أنى أفضل الصمت انطلاقا من ان أي مقال او حوار يجب ان يأتي بعد مشاهدة الفيلم، ولكن احتراما لكتاب نحبهم ولأننا حريصين على حق الاختلاف كان هذا الحوار.
رشا: أولا هناك مقالات وآراء عن مشاهد بفيلمك التي تم تصويرها بسوريا، على الرغم من ان لا أحد حتى الآن شاهد الفيلم في بيروت. انا اعمل في الحقل الثقافي السينمائي تحديدا، أتساءل عن خطورة هكذا ممارسة نقدية لها علاقة بالفيلم وبعملية انتاجه وتصويره، وعندي قلق كبير لدلالات هذه الحملة، فإذا أصبح مشرعاً ان ننقد ونخون ما لم نشاهد، او نقرأ، او نسمع، وندعي الصحافة الثقافية اتكالاً على إشاعات واسقاطات، فهذا يشبه ممارسات الحركات الأصولية. في البدء ماذا تقول وكيف تفسر عملية التصوير في سوريا لمشهد في الفيلم.
أحمد: أتمنى ان يكون كل ما كتب هو من باب الحرص على موقع وجودنا وسط كل هذا العنف الذي يعصف بنا من كل حدب وصوب، ومن باب الحرص أيضاً على التمسك بمساحة الحرية المتبقية لنا في هذه المدينة، وهي مساحة تتيح لنا حق الاختلاف، قدر اتاحتها للنقاش البناء والجدي. اعتبر ان كل عمل سينمائي، ان كان من ناحية الطرق الانتاجية او الخيارات الفنية، يتضمن مواقف وخيارات اخلاقية سياسية، اذ انه، يفترض به وضعك مباشرة في صلب سؤاله الأخلاقي سياسياً وبالتالي فإن أي حكم عليه يجب أن يكون من هذا المنطلق. ولا يمكن الفصل ما بين ظروف وأساليب الانتاج هذه، والسياسات المطروحة في الصورة نفسها. الفيلم اذن هو الموقف السياسي باللغة السينمائية والا وضعنا خط سياسي مباشر والتي هي ابعد ما تكون عن هذا الفيلم. الفيلم لا يهتم قسراً بإظهار عنف العدو. إذ إن هذا العنف تحصيل حاصل. بل يعالج مساحات نفسية وشخصية مضطربة ومرتبكة، كما يحاول الغوص في مكامن قلق شخصياته ما يجعلك كمشاهد تفقد إلى حد ما شعورك بالارتياح. إنه فيلم يقرِّب المجهر من مدنيين تركوا لمواجهة مصيرهم وعزلتهم وضعفهم، فالحرب التي تدور في الخارج، لا منتصر فيها على دمارنا ومآسينا. هذا المشهد "الدمار خارج المنزل" تم تصويره في الزبداني في سوريا لهدف يتعلق بسياق أحداث الفيلم ومحتواه السينمائي. أدرك ان النقاش يتمحور حول العملية الانتاجية لهذا المشهد والكيفية التي تم بموجبها استخدامه واسقاطه على فيلم عن حرب ٢٠٠٦ وكأن هذه العملية الانتاجية منفصلة وتلعب لوحدها في الساحة الخلفية للفيلم. وفي فيلمي هذا بالتحديد لا يمكن الفصل بينهما وبين ما أضافه هذا المشهد من ابعاد.
رشا: قصة الفيلم والتي تدور خلال حرب تموز٢٠٠٦ وكما هي مطروحة بالفيلم كان يمكن لها ان تكون بأي حرب أخرى من حروبنا.
احمد: لهذا السبب لا نرى الا مدنيين في الفيلم. أنا غير مهتم بإخراج فيلم حربي ولا أقول هنا ان المتحاربين يتساوون أيضا على الاطلاق. صحيح ان الفيلم تجري احداثه في حرب تموز ٢٠٠٦ ولكن تبقى مأساة من عاش أحوال الكارثة وما خسر من وجدانه وانسانيته حتى ولو نجي من الحرب هي ما يشكل نواة طرح الفيلم ومن هنا يمكن ان تكون هذه التجربة مشابهة من خوف وموت ورعب لمدنيين لا حول لهم بها ولا قوة في حرب أخرى.
رشا: اعلم أنك لا تستطيع ان تشرح فيلم او سياق المشهد وهذا موقف لا تحسد عليه، يستطيع المخرج قبل عرض الفيلم شرح تجربته الكتابية والإخراجية وقصة الفيلم لا شرح مضمونه.
أحمد : كيف يمكن أن أوضح كل هذا من دون أن يكون محور التركيز مشهداً بعينه، ومن دون ان اسمح للمشاهد بالحكم عليه، مع تحمل مسؤولياتي تجاهه، ومن دون ان أكون شرحت له سابقاً عما حاولت ان أقوله تاركا له فسحة التفكير بحرية ؟.
رشا: هل لك ان تخبرنا عن هذه العملية الانتاجية للمشهد؟
احمد: على مستوى الظروف الانتاجية، فهذا عمل نقوم به دائما من اجل انجاز اعمالنا الفنية وهو التعامل مع سلطات الامر الواقع ولكن من دون ان تكون هذه الاعمال مسايرة لتلك السلطات بل ناقدة وفاضحة و"مخربة" أحيانا بل ويجب أن يكون هذا ما يفعله الفن دوماً. إضافة الى أنني أوردت في الفيلم اين وكيف تم تصوير هذا المشهد أي باذن السلطات وباذن من صاحب البيت الذي وقفنا امامه.
رشا: هل كنت مدركاً منذ البداية بأنك تدخل ارضاً فيها مأساة وجراح مفتوحة وحرب لم تنته بعد؟
احمد: بالتأكيد. كنت من اللحظة الأولى مدركاً لحجم المسؤولية ولحجم المأساة نعم، اعرف ان تصوير الدمار هو في غاية الحساسية انطلاقا من خوفي ان تمحي مأساةٌ مأساةً أخرى. ذهبت الى الزبداني في سوريا وهالني مشهد الدمار. أربكني علماً بأنني معتاد على هكذا مشاهد. كان مرعباً مشهد وصمت المدينة التي تقف على الحد الفاصل ما بين الدمار والاطلال، اعادني في لحظة الى صور ومشاهد حرب ٢٠٠٦، اذ يتشابه هذا الدمار، كحصيلة غارات الطيران والقصف المدفعي. فالصور متشابهة حد التماهي حد أن كل صورة تمحو الأخرى، فهي تتشابه في تآكلها وتماثلها رغم عدم تشابهها في حياتها وسياقها السياسي. السؤال كان كيف لها ان تتماثل برداءتها "أي الصورة" مع من أعلن انتصاره هنا وهناك. نعم أدرك ان هناك جرح مفتوح وكل شخص يعيش تجربة الحرب ومأساتها بشكل مختلف، لكن هذا لا يعني ان لا صلة بين كل هذه المآسي او أنه لا يحق لنا ان نربط بينها لإضفاء أبعاداً أخرى على هذه الممارسات المتوارثة عبر التاريخ واختلاف الظروف والثقافات. اضافة إلى ما سبق، قد يكون مهماً أن نشير بأن هذا الفيلم روائي وليس وثائقياً.
واعيا تمام للدلالات الانسانية والسياسية للازمة السورية سمحت لنفسي ان اصور مشهد من الفيلم في الزبداني قد أكون اصبت ام لم أصب بمقاربتي في ذلك المشهد يبقى الحكم عند مشاهدة الفيلم ومعرفة مضمونه وغايته الأخيرة فنيا وسياسيا.
انا متشوق لرصد ردود أفعال المشاهدين عند عرضه في بيروت، ما اعرفه أنى لم اختر الطريق السهل او أنجزت عمل فني يستسهل او يستكين الى خيارات كسولة، اذ ان اعمالي الفنية منطلقة من التجربة الشخصية والواقع الذي اتفاعل معه يوميا.