لا يضير السوريين أن يستعير سينمائي ما صور فاجعتهم ليصور للناس فاجعته الشخصية أو الجمعية. وأحمد غصين لن يكون الأول في هذا المضمار ولن يكون الأخير. السينما في نهاية المطاف، ككل فن، هي مجرد نسخ عن أصل. ومشكلة فيلم أحمد غصين الأساسية، كانت وستكون، متمثلة في أنه استعار أصلا لينشئ نسخة لأصل مفقود. الذين طعنهم أحمد غصين في قلبهم تماما، هم اللبنانيين أنفسهم، أولئك الذين يدعي أنه يريد تمثيل معاناتهم مع العدوان الإسرائيلي على لبنان عام 2006. لأنهم الآن، وبحسب الفيلم، ورغم كل الجوائز التي حصل وقد يحصل عليها، باتوا مجرد خرافة ولا يستطيعون التدليل على معاناتهم إلا باستحضار الألم الحقيقي الماثل في الذهن والمخيلة على الدوام وهو بالتعريف سوري المنشأ والمآل. في نهاية الأمر صنع غصين تمثيلا للألم اللبناني ونزع عن الألم الحقيقي اسمه وهويته ليتسنى له غش المشاهدين بأن الألم الذي يتحدث عنه كان حقيقيا.
لقد فوت غصين على اللبنانيين فرصة أن يكونوا ضحايا. وكل تفويت في هذا المجال نسبي طبعا، وهو ليس المسؤول عن هذا التفويت لكنه على الأرجح سقط في فخه. والسباق المحموم على ادعاء دور الضحية في كل العالم، لن يتوقف مع غصين، ولم يبدأ مع الحسين وصحبه.
كل الصخب الذي دار ويدور حول استخدام ذكريات السوريين المدمرة وحيواتهم المقصوفة في القصير والزبداني، كديكور لقصة متخيلة عن حرب تموز. لم يكن على الأرجح يصيب وجهته الحقيقية. غصين يدافع عن خياراته بأن الألم لا يتجزأ وأن الحروب تستهدف المدنيين، وهم ضحاياها أينما حلت، ولا فارق بين مدني سوري وآخر لبناني. لكن التمعن في حقيقة الأمر لا تخدم هذه الحجة. اللبنانيون الذين تعرضوا لكل هذا الألم في حرب 2006، لم يسمح لهم أن يكونوا مدنيين. والطرف الذي لم يسمح لهم بالوقوع في هذا الموقع هو الطرف الذي يدعي حمايتهم، وهو الطرف نفسه الذي ساهم في قتل السوريين وتهجيرهم ومصادرة بيوتهم وذكرياتهم. في تلك الأثناء، أي في حرب 2006 ما قبلها، كانت الدعاية المقاومة والممانعة، وأطرافها ما زالوا هم أنفسهم منذ ذلك الوقت، تفيد أن كل لبناني تواجد في مناطق العمليات أثناء تلك الحرب هو مقاوم، ما فتئ حيا، لكنه ما أن يموت حتى يتحول مدنيا. وما زالت ادعاءات حزب الله تتكرر اليوم وكل يوم، وتفيد بأن اللبنانيين، الذين يدعي تمثيلهم، هم مجرد ديكور أليف لأغراض حزب الله الحربية. فالبيوت، والمحال والمدارس والمستشفيات، كانت وما زالت في دعاية حزب الله، مجرد تمثيل للبيوت والمحال والمدارس والمستشفيات، إذ أن الحقيقة تقع تحتها في الأنفاق التي يخرج منها المقاتلون لمقاتلة العدو. لقد صادر حزب الله من اللبنانيين حقهم بالموت أبرياء، وجعلهم مقاومين. ولم تنجح ادعاءات غصين في إعادة اللبنانيين إلى حقيقتهم بأنهم مجرد مواطنين، وهم عرضة لأن يكونوا ضحايا للحروب. ما زال اللبنانيون في كل مناسبة يقعون في موقع البطولة. في موقع القادر على رد الصاع، في موقع من يدعي أنه لا يهاب الحروب، ويخجل من واقع أن التوتر الأخير على الحدود الجنوبية للبنان، أدى إلى هجرة المدنيين منهم بأعصابهم وأطفالهم إلى مناطق يظنون أنها قد تكون أكثر أمنا في أي مواجهة قادمة. وما أن تيقن أصحاب القرار في الحرب والسلم في لبنان من واقع أن الحرب لن تقوم، حتى نظموا مسلسلات تمثيلية عن الحياة التي تسير سيرها الخامل في الجنوب، لتصوير أن الجنوبي ليس خائفا كالإسرائيلي. وأنه تاليا لا يملك في عروقه ذرة دم.
ثقافة حزب الله والممانعة التي تتحكم بمصائر اللبنانيين اليوم حولتهم إلى زومبي، لا تدعي فقط أنهم لا يخشون الموت، بل هم أصلا ميتون. وحولت دماءهم إلى مجرد صديد وقيح. لهذا لا ينجح أي كان، ما لم يتصدى لمسؤولية حزب الله وحلفائه، عن جعل حياة اللبنانيين رخيصة إلى هذا الحد، ويمكن إنفاقها بيسر وسهولة ومتعة، كما ينفق المرء وقته على تدخين سيجارة. في أن يعيد لدم اللبنانيين صفته الحقيقية. وأحسب أن أحمد غصين، حتى لو أراد ذلك، ليس قادرا وحده على هذه المهمة.
لهذا، وباندفاع غريزي، لم يجد غصين بدا من استعارة حياة السوريين وموتهم، لنسبتها إلى اللبنانيين. وهذه استعارة مكلفة في نهاية المطاف. مكلفة لأن اللجوء إلى هذه الاستعارة، يجعل الفيلم تخييلا محضا. كما لو أن هدفه الأول والاخير هو القول: أيها المشاهد، لا بد أنك تدرك حجم وحقيقة المعاناة التي عاناها السوريون، حسنا، أنا أريد أن أقول لك أن ثمة لبناني واجه معاناة مشابهة. وهذه الاستعارة تمحو الألم اللبناني برمته، وتساهم مرة أخرى في التماهي مع استخفاف حزب الله وصف الممانعة بحياة اللبنانيين وتتفيه قيمتها. لكن فيلم غصين وأي فيلم آخر لا يستطيع أن يمحو من ذاكرة العصر معاناة السوريين الذين أثبتوا أنهم مواطنين حقا، وأنهم ضحايا حروب حقا، وهم بالتالي آباء وأمهات وأطفال وشيوخ، وبيوتهم هي بيوت وليست واجهات كاذبة تخفي تحتها أنفاقا للصواريخ، وذكرياتهم هي ذكريات، وليست ديكورا مملا في حكايات وأفلام.