سنة 2017، عرض الفنان أحمد غصين عمل في غاليري "مرفأ" بعنوان "الأرض لمن يحررها" يحكي فيه عن وضع الأراضي والعقارات في جنوب لبنان وعن كيف حصل لأبيه أن يتملك أرضاً فقط بوضع اليد عليها وإشهاره بأنها أصبحت ملكه. كان يكفي هذا لتقبل الدولة اللبنانية بالإشهار وتحرر صك ملكية للأب. في هذا العمل المذهل في صراحته ينجح غصين بجعلنا نرى العلاقة الاستعمارية التي تربط اللبناني بالأرض والعلاقة الانتهازية التي تربط الفنان اللبناني بالسوق العالمية. في إثباته لقدرته على الحصول على ما يريد يضع الفنان يده على قطعة أرض في الجنوب بمساحة غاليري "مرفأ" فيكتب صك مستعمرة جديدة باسم صاحبة الغاليري جمانة العسيلي. الأرض لمن يستوطنها ويستعمرها إذا، والمواضيع الفنية كذلك لمن يستوطنها ويستعمرها فينقبها ليبيع زيوتها في أسواق فنية تعمل كالبورصة.
أسهم لبنان في البورصة الفنية العالمية في تحسن مستمر في السنتين الأخيرتين من زياد الدويري لنادين لبكي وصولاً إلى أحمد غصين وفيلمه "جدار الصوت" الذي حصد أربع جوائز حتى الآن في مهرجان البندقية للسينما. في البورصة العالمية ينتصر المخرج في فيلمه المعنون انكليزيا ب all that victory، أو" كل هذا النصر"، بينما في لبنان يتعرض الفيلم لنقد شديد لفضيحة ذهابه إلى سوريا لتصوير مشاهد دمار ووضعها في سياق فيلم عن حرب تموز. الأرض لمن يدمرها ويحررها من أهلها، والفن لمن يستوطن و يبني علاقات تسمح له أن بالذهاب إلى مناطق حتى أهلها ليس لهم أن يزوروها.
أتت حرب تموز بعد خطاب نصرالله عن ثقافة المقاومة دافع به عن البندقية كونها "تشكل فكر وثقافة وهوية وحرية وعقيدة." وبدأت الحرب بخطف الحزب لجنود إسرائيليين ما أدّى إلى دمار مهول في لبنان. من خلال صموده برهن الحزب للبنانيين بأنه أقوى جهة عسكرية في البلد. مع مآلات الربيع العربي واندلاع الثورة السورية عزّز حزب الله شعار ثقافة المقاومة وسّوغه لتشريع دخوله في الحرب إلى جانب النظام السوري سنة 2013، عندما كلفه رؤساؤه في إيران بدعم نظام الأسد واسترداد بلدة القصير من الجيش السوري الحر في معركة دامت بضعة أسابيع. ساهمت هذه العملية بإنهاء حصار مدينة حمص الذي بدأه النظام في أوائل الثورة في أكتوبر 2011 إلى صالح النظام الذي أحكم سيطرته على المدينة في منتصف أيار 2014. مقابل تورطه بالحرب غنم حزب الله القصير لصالح مقاتليه ووسع مشاركته في الحرب بعملية القلمون والزبداني التي كذلك دامت أشهر وانتهت أيضا لصالح النظام وحزب الله الذي أحكم سيطرته على المدينة وبدأ اليوم باستعمارها وترميم مساجدها واستيطانها لمنفعة عناصره وعائلاتهم.
يؤكد المخرج بأن الفيلم عن تلك الحرب في حديث أجرته معه جريدة الأخبار. يقول غصين في المقابلة بأن حرب تموز اشعرته بالحاجة لاستعمال كاميراته "لإحياء هذه الذاكرة". إحياء أي ذاكرة بالضبط يا ترى؟ فهل أحد في لبنان كان قد نسي الحرب التي رسّخت واقع سياسي جعل من حزب الله القوة المهيمنة سياسياً على لبنان وعسكرياً على أجزاء من سوريا؟ وهل غفل على المخرج أن دخوله سوريا من أجل حرب تموز ينطبق تماما مع الذرائع التي يقدمها حزب الله لتورطه في سوريا؟ مع فضيحة فيلم جدار الصوت لغصين دخلت الثقافة اللبنانية المطبّعة مع نظام الأسد في سوريا وحلفائه اللبنانيين مرحلة جديدة في صراحة انتمائها.
أجبرت البلبلة التي قامت على الفيس البوك المخرج في إعطاء مقابلة مقتضبة لموقع مدن عما إذا كان فعلا قد ذهب إلى سوريا: إلى القصير والزبداني تحديداً ليصور مناظر الدمار السوري ليضعها في فيلمه على أنها دمار قرى الجنوب اللبناني في حرب تموز. سأله الصحافي إذا كان فعلاً قد استعمل "المأساة السورية كديكور." يرد المخرج بأن جلّ ما فعله هو استعارة. يحاول الفنان أن يشرعن فعله هذا بالتكلم عن الاستعارة التي يعتبرها "مفتاح النقاش لما تحاول قوله في المضمون وعبر لغتك السينمائية." في محاولته لإخراج شعري لمغامرته السورية يستعير غصين الاستعارة من الشعراء فيشعرني بالحاجة لأن أستعير فعله هو وأذهب بالاتجاه المعاكس إلى متحف حزب الله في قرية مليتا لأفهم أي نوع شعري هذا الذي يطلب منا المخرج أن نتفهمه.
في آخر زيارة لي إلى مليتا في آذار هذه السنة انتبهت أن المتحف قد زاد عمل جديد إلى مجموعة أعماله المباشرة في رمزيتها. مجموعة براميل مصفوفة بهندسة فنية فوق بعضها البعض. أسأل الدليل المرافق لي ما هي تلك البراميل؟ فيقول أنها تعبر عن رمي إسرائيل للبراميل على الجنوب. أقول ولكني لم أسمع بحياتي أن إسرائيل قامت بعمل كهذا منذ 1948 عندما رمت قوات الهاغانا البراميل على الفلسطينيين؟ فيجيب نعم فالصحافة مسيسة، وأن هذه البراميل سهلت على إسرائيل عمليات تبادل السكان فقامت بإسكان سوريين وعراقيين في لبنان مكان أهل البلد.
إن أعداد السوريين كبيرة نسبياً في الجنوب. تقدر مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين عدد السوريين المقيمين في الجنوب بنحو 140 ألف لاجئ ولاجئة،. تكتب ولاء صالح في مقال نشرته في الجمهورية منذ أشهر عن أحوال السوريين في الجنوب، بأن الاعتقاد بأحقية الحزب في القتال في سوريا والتضحية بأبناء الجنوب غالبا ما يتلخص بأن "أقلّ ما يمكن فعله هو مساعدة «الدولة السورية» في القضاء على «الإرهاب»، رداً «على موقفها النبيل» في حرب تموز 2006".
في رواية حرب تموز التي يريد لنا المخرج أن نقبلها تراهن الاستعارة على سرديات الغالبون في كتابة التاريخ وعلى قدرتهم باختراع ذاكرة لا علاقة لها بما حصل فعلا. فنشاهده في مقابلة على اليوتيوب من مهرجان البندقية يقول بأن هدفه في الفيلم هو إحياء الذاكرة البصرية لحرب تموز. يقول أيضا أن هدفه من الفيلم هو التفكير بثقافة الصمود في الجنوب، تلك الثقافة عينها التي يجاهر بها الحزب مرارً وتكراراً.
ينهي المخرج حديثه مع جريدة الأخبار ليسأل "هل الخيار الباقي لجيلي وأولادنا في لبنان اليوم هو الهجرة، هل هذا خيارنا الوحيد؟" الحزب وجد خياره: القتل والتعذيب والتهجير وتبادل السكان في سوريا. وجد الحزب حلاً لمن أطاعه: استعماره سوريا وتحسين الوضع الاقتصادي المتردي في البلد من خلال السماح لمستعمريه بسرقة سوريا ليس فقط من أبنائها ولكن من سردياتها وصورها. في فيلم "كل هذا النصر" يتماهى الفنان مع هذا النهج فيقوم بتغيير أسماء الأشياء. تدمير القصير والزبداني وكب البراميل تحت راية المقاومة تجد من يكرسها ثقافيا فيجردها من الواقع السياسي و يبيض صورتها عالمياً بإعطائها الهوية السياسية للغالبين: حرب تموز كيوميات مجردة من السياسة التي أوجدتها. فهذه التسميات الخطأ، هذا الزيف والتطبيع معه هو لب الموضوع.
يكتب ألبير كامو عن علاقة العنف باللغة بأن "التسمية الخطأ للأشياء تزيد من بؤس هذه الدنيا، فالزيف هو ذاته مأساة البشر. لذلك، الفعل البشري العظيم هو أن لا تشارك في خدمة الكذب". يسمح غصين لنفسه بأن ينتحل هوية الدمار ليجيّرها للمنتصرين فيكشف عن فهم متناهي السطحية للتاريخ. فالرواية التاريخية لا يكتبها المنتصرون كما يقول الكليشيه. التاريخ يكتبه كل من له خسارة عميقة في تراجيديتها. ثقافة الاستعمار تأتي مبتذلة، خاوية، فيها من الزيف ما يجعلها مملة، تشبه أكثر ما تشبه الخطابات السياسية. لا ناقد جدي له من الوقت ما يضيعه في مشاهدتها. ما يبقى للخاسرين هو التأريخ، وها نحن نقرأ ونشاهد ونفكر مع السوريين الذين منذ بدأت الثورة يكتبون قصصهم و يصورونها و يتأملون بمساراتها ويجترحون المعنى الجديد من واقع الحال. أما أفلام المقاومة فلجمهور آخر قبِل بالاستعمار واستعاراته ويقيس نجاحه بغنم جوائز تجارية ويستولي على ما ليس له الحق بأن يستعيره.