بدأت القضية بنميمة أو خبرية تنتقل بالهمس، ممزوجة ببعض السخرية من هنا وبشيء من الصدمة «الأخلاقية» من هناك ... «طلع أحمد على سورية ليصور؟» ... انتشر السؤال واتّسعت دائرة العارفين بوجوده، ودائرة المطالبين بموقف من صديق ذهب إلى سورية ليلتقط بعض مشاهد الدمار من هناك. بدأت النميمة تتحوّل تدريجيا إلى قضية، تتحضر في الخفايا، وتكبر من خلال الأحاديث الجانبية، ويزداد عدد ضحاياها مع كل تكرار للسؤال هذا... بات الجميع يسأل «مين بيعرف؟»، سؤال تطميني عن هوية من سيُفضَح كشريك صامت في القرار هذا... «حتقول شي؟»... «ما بعرف»...
القضية هي سجال فيسبوكيّ أثاره الفيلم الأخير للمخرج أحمد غصين «جدار الصوت». تدور أحداثه خلال «حرب تموز» في منزل معزول في جنوب لبنان، يتعايش في طابقيه مدنيون لبنانيون وجنود إسرائيليون. بيد أنّه بعد عقد من الإعمار، لم يعد هناك أثر للدمار الإسرائيلي في جنوب لبنان قد يصلح لتصوير هذه الحرب. فقررت ماكينة الإنتاج الذهاب إلى سورية، إلى مناطق مدمّرة على حدودها مع لبنان، لاستعارة بعض مشاهد الدمار من هناك وإدخالها في رواية الحرب الأخرى.
من الصعب تجاهل «الحمولة السياسية» لهذه الاستعارة أو هذا القرار التقني، وهي تحويل الحطام السوري إلى «ديكور» في «حرب تموز». فمع قرار حزب الله التدخّل في سورية إلى جانب النظام البعثي، تم تجنيد رواية «النصر الإلهي» لمواجهة «الثورة السورية»، كمدفعية إيديولوجية لتبرير قمع النظام. ومع انتصار حزب الله في مشروعه لتحويل سورية إلى حطام، يأتي «جدار الصوت» ليؤكد في استعارته هذه، أو رغمها، انتصار رواية حرب على أخرى. فيبدو قرار تحويل الدمار السوري إلى صورة خلفية في ملحمة «حرب تموز» الترجمة الجمالية لانتصار عسكري. إنه الانتصار الأخير على «الثورة السورية» أو بكلام أدّق، على ذكراها.
انتظروا الفيلم
قد لا يريد المخرج قول ذلك. وقد لا تكون «الحمولة السياسية» تعبيرا عن نواياه أو مضمون روايته. لكنّنا لا ندري. فالفيلم لم يعرض بعد في الصالات اللبنانية. وفي ظل غيابه، جاءت الخلاصة الأولية لهذه القضية على شكل موقف معلّق ... «انتظروا الفيلم» ... فليس من محاكمة من دون ظهور المتّهم، والمتّهم هنا هو العمل الفني، ليس مَن صنعه أو كيفية صناعته. وكل ما يقال والمتّهم غائب ليس إلّا مجرّد إسقاطات سياسية على عمل لم يبُح بعد بمضمونه. فالمسألة، لدعاة الانتظار، واضحة: للعمل الفني أولوية على باقي الاعتبارات، سواء كانت سياسية أم أخلاقية، وأي نقد يتجاهل هذه الأولوية يهدّد استقلالية العمل الفني، ويعيدنا إلى انحدار «الالتزام». فربّما هناك، بين شقوق «جدار الصوت» ما يبرّر اقتلاع صور سوريّة ودمجها برواية مجرّدة عن الحروب. وهذا القرار، لا يحاسَب عليه إلّا بعد الرضوخ للّغة السينمائية للفيلم، أي من داخلها. انتهت القضية وعادت إلى طبيعتها «النميمية» الأولية، وبات السؤال «دخلكن، شو عاد صار بقصة أحمد؟».
«انتظروا الفيلم»، إذن...
انتظرنا وبدأ الشك يراودنا حول صلاحية قرار كهذا. فهل من الضروري فعلياً انتظار العمل والرضوخ للغته الفنية قبل مساءلة جوانب من شروط انتاجه أو بعض خياراته السينمائية؟ هل بات المدخل الوحيد للنقد هو القبول بفرضية استقلالية العمل الفني وفردانية صانعه؟ هل العمل الفني مستقل عن شروط إنتاجه، فلا يمكن مساءلتها إلا من خلال اللغة الذاتية للعمل؟ تكاثرت الأسئلة وبدا قرار الانتظار كخارج عن الموضوع، كالمعقل الأخير لمن يؤمن بتجرّد الفن واستقلالية الحقل الفني وتعالي الفنان. فالسؤال ليس موجّهاً إلى مضمون الفيلم أو دوافع مخرجه، بل إلى شروط صناعته وماكينة إنتاجه والحقل الثقافي الذي يحدّد الخيارات المتاحة لكل فنان. القضية هي عن فرضية الانتظار وعن إمكانية التجرّد في الفن وفي السياسة: عن إمكانية تجريد الصورة السورية من سياقها، عن تجريد الحروب من تاريخها، عن تجريد النقد من السياسة، عن تجريد العمل الفني من شروط إنتاجه، عن تجريد الحقل الثقافي من مصالحه، عن الاستعارة كعملية تجريد للواقع...
في هذا المناخ من التجرّد، من الطبيعي أن يكون النقاش مجرّداً من الفيلم، غيابه هو في صلب الموضوع.
عن «الاستعارة» السورية
بالعودة إلى قضية الذهاب إلى سورية، فإنّ القرار، في عملية تجريده هذه، يدفع بالجماليّ إلى حدوده الأخلاقية ويتخطاها، كما أنّه يتخطى هذا الفيلم ليطرح مسألة تصوير العنف بعد سورية. بهذا المعنى، يتحوّل «جدار الصوت» إلى مسرح لطرح أسئلة أوسع عن علاقة الفن بالحطام السوري، كما يعرض إحدى الإجابات الممكنة على تلك الأسئلة، وهي التجريد. فعملية التجريد هذه تأخذ أبعادا مختلفة:
أولاً، إنه تجريد للدمار من عملية صنعه. فالدمار السوري ليس دمارا مجرّدا، مرّ الزمن عليه وبات «طبيعي». إنّه حطام قيد التدمير، جزء من عملية سياسية وعسكرية ما زالت قائمة، ضحاياها معروفون كما فاعليها. سورية، بهذا المعنى، ليست حطاما بل هي تُحطّم، مدنها تتحول إلى ساحات للدمار، ومدنيوها يقتلون أو يهجرون يوميا. قرار الاستعارة بمشاهد الدمار السوري هو مشاركة في تحويل التدمير إلى دمار، أي تجريد الدمار من حاضره لكي يتحوّل إلى «حطام» يصلح كـ«ديكور» لفيلم.
ثانياً، يقوم هذا القرار على عملية تجريد أخرى، هي تجريد الدمار من هوية المدمِّرين. فالحطام ليس نتيجة كارثة طبيعية أو حادث عابر. هو نتيجة قرار اتخذه أبطال «حرب تموز» والنظام البعثي، وهما الطرفان اللذان سهّلا قرار التصوير هذا. وهنا يأخذ التجريد منحىً أخطر. فلم تُستخدَم المشاهد السورية كـ«ديكور» لفيلم عن الحروب، بل لفيلم تدور أحداثه خلال «حرب تموز». بهذا المعنى، تمّ تحويل الدمار السوري إلى محطة في رواية مدمِّريها، أو إلى صورة خلفية لأمجادها. باتت صورة الضحية «ديكور» في رواية جلادها، ولم يعد هناك وجود لذكراها إلّا كصورة مجردة في جنوب لبنان.
تلك الخلاصات ليست مبنية على مضمون الفيلم أو نيّات المخرج، ولكنّها تفرض نفسها عليه. أمّا النيّات، فصرّح عنها المخرج في مقابلة قصيرة في موقع «المدن» يفسّر فيها استعارته انطلاقا من موضوع الفيلم. فالحديث هو «عن مدنيين سُحقوا ويُسحقون يومياً أمام ماكينة الدمار في بلداننا، وفي هذا الشرق. مرة في جنوب لبنان، مرة في سوريا، أو اليمن....». وفي هذا التصريح يكمن البعد الثالث لعملية التجريد هذه، التجريد من السياق. فحسب هذه الاستعارة، هناك حروب مجرّدة في منطقتنا، يقوم بها عنف لا حيثية له ويدفع ثمنها «مدنيون» لا حول لهم ولا قوة. تُخرج الاستعارة العنف من أي سياق سياسي أو مكاني أو زماني، ليصبح «آخره» الوحيد كائناً مجرّداً أيضاً، هو «المدني». هذه ليست استعارة، بل تلخيص سهل للواقع، يجد في ثنائية أخلاقوية هروباً من السياسة والأخلاق.
في وجه هذا التجريد، يصبح السؤال مشروعاً عمّا إذا كانت «استقلالية اللغة الفنية» قد أصبحت إحدى الطرق الملتوية للتطبيع مع واقع التدمير. وهذا السؤال يتخطى النيّات أو الخيارات الأخلاقية لأصحاب هذه اللغة، ليطرح سؤالا عن كيفية تصوير العنف. إنّه يتخطاهم ولكنه لا يعفيهم منه. فمهما كانت تلك النيات، قام هذا التجريد بدفع اللغة السينمائية إلى ما بعد حدودها الأخلاقية، وطرح على الجميع مسألة معنى التطبيع مع القمع في سورية اليوم.
تصوير مدير التصوير شادي شعبان في سوريا
انتصار الحطام على التجريد
لا تحتاج هذه القراءة إلى انتظار الفيلم، كما أنّها ليست حكماً سياسياً يُفرَض على العمل الفني من خارجه. إنها نابعة عن سيرورة الفيلم ذاته وخيار الذهاب إلى سورية لالتقاط مشاهد دمارها. فمهما كانت الدوافع الروائية أو المادية لهذا القرار، فإن «الصورة السورية» فرضت نفسها على ماكينة الإنتاج وكأنّها تؤكد أن لا تصوير للعنف اليوم من دون سورية، حتى إذا كان هذا العنف يسبق دمارها. فالفيلم ينطلق من «حرب تموز» كمسرح ليتناول مسألة العنف والحروب، ولكنّه يعترف، بقراره هذا، أن هذا المسرح لم يعد كافياً لتصوير العنف أو لم يعد يصلح كنقطة ارتكاز للكلام عن الحروب. فقدَ العنف الإسرائيلي طبيعته «النموذجية»، ولم يعد مقياس الدمار في المنطقة. صورته باتت بحاجة إلى الصورة السورية لكي تحظى بشرعيتها كحطام. بهذا المعنى، يبدو قرار الذهاب إلى سورية اعترافاً بأنّ العنف بعد سورية ليس كالعنف قبلها. بات هناك معيار جديد في المنطقة لا يمكن للاستعارات الفنية تسطيحه.
في فشل هذه الاستعارة، يكمن انتصار الصورة السورية على إمكانية تطبيعها الفنية. من مشاهد خلفية لحرب أخرى، تحوّلت هذه الصورة إلى ثقب أسود، مجرّد التلميح إليها يستنفد أي عمل فني ويجعله، بطريقة أو بأخرى، عن سورية. بهذا المعنى، ليس أحمد من «طلع عسورية»، بل سورية هي التي اجتاحت فيلمه، وحوّلته من فيلم ينطلق من «حرب تموز» كمسرح إلى الفيلم الذي صُوِّرت بعض مشاهده في سورية. انقلبت الصورة، و«الديكور» بات هو المسرح. كأن هذه المشاهد تعلن أن لا تصوير للعنف بعد سورية، أو حتى قبلها، وأنّه ليس هناك من «نصر إلهي» يستطيع ترويض صورها. انتصر الحطام السوري على التجريد الفني، وإن كانت سورية لم تنجُ من التجريد العسكري لأبطال «حرب تموز».
عن حقل فنّي ينتظر
استعجل المخرج الذهاب إلى سورية ليستعير صورها. أما الحقل الفني، فما زال ينتظر الفيلم لكي يعلّق. وبالعودة إلى القضية كـ«قضية»، فإنّ المسألة لمثيريها لم تكن «فقط» عن الخيارات السينمائية لمخرج لبناني، بل كانت ضمنياً تحدياً موجهاً لـ«جو» ثقافي وفني متّهم بالتخاذل والتكاذب والتواطؤ، أو ما يمكن اعتباره «انتظاراً». قد يكون هذا التوصيف قاسياً بعض الشيء، ولكن هناك الكثير ممّا يدعم فكرة افتقار حقولنا الثقافية للنقد والمساءلة، ما يفسّر انتشار ثقافة العتاب الخاص على حساب النقد العلني. فمن ثقافة «الشلل» إلى المحسوبيات المؤسساتية، مروراً بالتستّر على قضايا استغلال السلطة من هنا أو التحرّش الجنسي من هناك، يبدو حقلنا الفني غير قادر على نقد ذاته، مهما كان نقدياً تجاه خارجه. وإن كان هناك نقد لحال الثقافة، فغالبا ما يأخذ طابعاً فضفاضاً عن حال الثقافة في عالمنا المنحط...
في ظل هذا التستّر، ليس مستغرباً أن يتحوّل «الفضح» إلى أداة للنقد، يأخذ من القضية المتستَّر عليها حجّةً لنقد بنية التستّر بأكملها، محوّلاً المتّهم إلى كبش فداء لخصم أكبر. كما أنّه ليس من المستغرب أيضاً أن يعتبَر النقد في مناخ كهذا نوعاً من «خيانة الأمانة»، تنقل إلى العلن ما يُفترض به أن يبقى في الكواليس، وتحوّل الناقد إلى كبش فداء لـ«انحدار المستوى». في حقول ثقافية كهذه، تتحوّل فكرة «استقلالية» الحقل إلى شيء أقرب إلى مبدأ «الحرمة» ومفرداتها كالحياء والخيانة والتستر والعار. فالمسألة ليست مسألة دفاع الحقل عن استقلاليته عن اعتبارات «أخلاقوية»، بل دفاعه عن «حرمته» من مساءلة سياسية. في وجه الحرمة، الفضح وليس النقد.
وهنا تكمن آخر عملية تجريد في قضية «جدار الصوت»، وهي تجريد الحقل الثقافي عن مصالحه وصراعاته وحدوده، تجريد يأخذ عنوان «الانتظار». وكما فشلت الاستعارة-التجريد في احتواء الحطام السوري، فشل الانتظار-التجريد في احتواء القضية، ليفضح الحقل ذاته كبنية تستر وتخاذل. ويبقى، بين حطام هذه القضية، سؤال ذكرى «الثورة السورية» ومعنى التطبيع مع عملية تدميرها كعائق أمام أي تجريد، سواء كان فنياً أم سياسياً. وهذا السؤال لن يزول مهما انتظرنا...