مقالات بدايات
اقرأ النصّ بالانجليزية
09/09/2019
يبدو أنّ أجساد السوريّين ودمار مدنهم لم يعد يصلح إلا للإعارة. لم تعد المأساة السوريّة تستحقّ حتّى أن تُروى. أمّا أجساد السوريّين وبقايا مُدُنهم، فباتت عظاماً لأجساد أخرى. أجساد جلّاديهم ربّما.
Author: خالد صاغية

في فيلم “استعادة” (٢٠١٥)، قام المخرج الفلسطيني كمال الجعفري بجمع كلّ الأفلام الإسرائيلية والأميركية التي صُوِّرت في مدينته يافا، وأعاد تجزئيها إلى آلاف الصور، ثمّ عمد إلى محو وجوه الممثّلين مبقياً فقط على معالم مدينته يافا وأهلها. كانت هذه طريقة المخرج بالانتقام إذا جاز التعبير. الانتقام لمدينته التي تعرّضت منذ النكبة لمسار طويل من تبديل المعالم، والانتقام من السينمائيين الذين لم يروا من يافا لا سكّانها ولا حكاياتها حين جاؤوا ليرووا قصص أفلامهم، بل داسوا على كلّ ذلك ليستخدموا المدينة وتحوّلاتها كمجرّد ديكور لأفلام الأكشن التجاريّة.

لو لم تكن يافا واحدةً من المدن الفلسطينية التي عاشت النكبة، ولو لم تكن إسرائيل مستمرّة في محو معالم الكثير من الأماكن الفلسطينية، لما نال فيلم "استعادة" الاهتمام الذي حظي به. أمّا وأنّ يافا هي يافا، فلا يمكن قراءة "استعادة" إلا كفعل سياسيّ، ولا يمكن قراءة مجيء تشاك نوريس وزملائه إلى يافا لتصوير أفلامهم في الثمانينات إلا كمشاركة، وإن غير مقصودة ربّما، بمسار الممحاة الإسرائيلية.

 

شهيّة الكاميرات

من الصعب لمن شاهد فيلم "استعادة" ألا يستحضر طيفَه لدى اطّلاعه على السجال الذي أثاره الفيلم اللبناني "جدار الصوت" حتّى قبل عرضه على الشاشة. والواقع أنّ السجال لا يتعلّق بمضمون الفيلم، بل بطريقة تصوير عددٍ من مشاهده وبموقع التصوير نفسه. ذلك أنّ الفيلم الذي تدور أحداثه في جنوب لبنان خلال حرب تمّوز ٢٠٠٦، افتقر إلى مشاهد الدمار بعد إعادة إعمار الجنوب، فوقع الاختيار على غربيّ سوريا المحاذي للحدود اللبنانية، والذي كان دماره لا يزال "طازجاً" يثير شهيّة الكاميرات.

فهل ارتكب المخرج خطيئة في اختياره مكان التصوير؟ هل رضخ لظروف الإنتاج الصعبة، فاستسهل اللجوء إلى الخيارات المتاحة؟ أم أنّه خيار مُخرج يحاول القفز فوق القوالب والأفكار الجاهزة ويثير الأسئلة الصعبة كما عوّدنا في فيلمه السابق "أبي لا يزال شيوعياً"؟ تصبح هذه التساؤلات ملحّةً في ظلّ غياب شبه تامّ للنقد الفنّي عموماً، وميلٍ عارم لاستبعاد النقد السياسي لا للأعمال الفنية وحسب، بل حتّى لسياسات إنتاجها، ورَجْم ذاك النقد باعتباره جزءاً من آلة القمع، حتّى حين يتعلّق الأمر بصورةِ مَن باتوا مُستفرَدين تماماً أمام الدبّابة والكراهية والكاميرات الجائعة.

تبدو لي المشكلة مع التصوير ما بين القصير والزبداني مزدوجة. فـ"طزاجة" الدمار أبقتْه تحت حراسة القوّة العسكريّة التي اقترفته، أي أنّ القوّة نفسها التي أذنت بتصوير الفيلم هي التي دمّرت المنطقة وحالت دون عودة الأهالي إليها. لم يأتِ ذلك في سياق ممارسة المخرج لأيّ "خداع" من أجل سرد رواية القصير/الزبداني، إنّما تسلّل إلى المنطقة في ظلّ غياب سكّانها لاستخدام دمارها في سياق رواية قصّة عن حرب أخرى. ولم ينتبه ربّما أنّ هذا التسلّل يشكّل مساهمة إضافيّة في إخراس رواية أهالي المنطقة بعد أخذ الموافقة ممّن هجّرهم أو ممّن "يمون" على من هجّرهم.

 

الجلاد والضحيّة

تصبح المشكلة مضاعفةً حين نضيف إلى المعادلة هويّة الجلاد والضحيّة، وتبادل الأدوار بين حرب تمّوز وحروب القصير/الزبداني. فحزب الله الذي تعرّض للاعتداء في حرب تموز، يقرّر الانتقال إلى دور المعتدي في سوريا. وهذا ما يجعل استخدام دمار القصير/الزبداني وإخراس رواية أهلها في سياق إنتاج رواية عن الحرب الإسرائيلية في لبنان شديد الدلالة في رمزيّته السياسيّة. ذلك أنّ المُخرج ليس أوّل من استخدم المأساة السورية كمجرّد ديكور للحرب الإسرائيلية، فقد سبقه إلى ذلك حزب الله نفسه حين جعل من حربه في سوريا ديكوراً للرواية الممانِعة الكبرى. ووفقاً لتلك الرواية، فإنّ القصير والزبداني وضحاياهما من حجر وبشر هم مجرّد أضرار جانبية لإنقاذ الأمّة من الأخطار المحدقة بها، تلك الأخطار التي ينبغي أن ننظر إلى حرب تمّوز حتى نعرف مصدرها. هكذا تتحوّل محاولة المخرج استخدام حزب الله لتصوير فيلم "نقديّ" عن حرب تمّوز، إلى استخدام الحزب للمخرج نفسه لصناعة فيلم تنتصر آليات إنتاجه للرواية الممانِعة.

لعلّ هذا ما يجعل انتظار مشاهدة الفيلم لانتقاد تصويره في سوريا انتظاراً من غير طائل. وما يضاعف من لا جدوى هذا الانتظار "الردّ" الذي تولاه المخرج على السجال الذي دار حول هذه المسألة على الفيسبوك. ففي قطعة من الصعب إيجاد تصنيف صحفيّ لنوعها، لم يقدّم المخرج أيّ قراءة تقويضية لما فعله في سوريا، بل قدّم حرب تموز كـ"فضاء درامي" تدور فيه معاناة المدنيّين في كلّ الحروب. تلك الحروب التي تتشابه في كل مكان، على حدّ قول المخرج الذي لجأ (مضطرّاً؟) إلى إنسانويّة ساذجة تجهّل الجلادين وتُخرج فيلمه والحياة من الفضاء السياسي. لكن ما دام المدنيّون هم القضية، فأين هم مدنيّو القصير والزبداني؟ هل تراهم يحتاجون إلى من يُمعن في طمس روايتهم التي ما عادوا يملكون غيرها، وإلى من يحوّل جلاديهم إلى موزّعي تصاريح فنية؟

الواقع أنّ حجّة "المدنيّين" لا تصمد حتّى بالنسبة للمخرج نفسه الذي يقول إنّ دمار القرى والمنازل أشعره "بالحاجة لاستعمال كاميرتي لإحياء هذه الذاكرة". لم يقصد المخرج طبعاً ذاكرة القصير أو ذاكرة الزبداني التي ليست القصير وليست الزبداني في الفيلم، ولا ذاكرة مدنيّيها المغيّبين من فيلمـ(هم) ومن مُدُنهم وقُراهم.

 

تصوير مدير التصوير شادي شعبان في سوريا

 

حقّ المهزومين بصورتهم

قد لا يكون المخرج تقصّد محو ذاكرةٍ لإحياء أخرى، وليست نيّاته ما يعنينا ما دام المقصود ليس توجيه أصابع الاتّهام، أو وضع فيلمٍ على لائحةٍ سوداء ما. فالمسألة لا تتعلّق بخطأ فردي وحسب، بل بمسؤوليةٍ وحساسيّة مفقودتيْن تجاه حقّ المهزومين بصورتهم وسط جرحهم النازف، وهو حق لم يكفّ عن إثارة نقاش واسع خلال الثورة. نقاش غذّتْه غزارة الأشرطة التي راجت مع انتشار صحافة المواطن، ثمّ عرض صور تقرير “قيصر” الذي يُظهر صور جثث المعتقلين الذين قضوا تحت التعذيب في السجون السوريّة. دار النقاش بشكل أساسيّ حول كرامة تلك الأجساد وجواز استخدامها ومدى فاعليّة هذا الاستخدام كأدلّةٍ جنائيّة علنيّة أو كصرخةٍ لجذب انتباه العالم. كان ذلك في خضمّ الثورة. أمّا الآن، فيبدو أنّ أجساد السوريّين ودمار مدنهم لم يعد يصلح إلا للإعارة. لم تعد المأساة السوريّة تستحقّ حتّى أن تُروى. أمّا أجساد السوريّين وبقايا مُدُنهم، فباتت عظاماً لأجساد أخرى. أجساد جلّاديهم ربّما.

بعد إنجاز فيلم "استعادة"، روى مخرجه أنّه كان طفلاً حين شاهد للمرّة الأولى مدينته تُقلب رأساً على عقب تحضيراً لتصوير أحد أفلام تشاك نوريس. بقيت الصورة حيّةً في رأس الطفل ثلاثين سنة قبل أن يبصر فيلمه النور. فهل من طفل من أبناء القصير أو الزبداني كان حاضراً حين حمل مخرج “جدار الصوت” كاميرته وسط الدمار؟ وكيف سينقذ هذا الطفل صورة مدينته من ثنايا ذاك الفيلم "الإنساني"؟ الأرجح أنّ القصير والزبداني في زمن تصوير الفيلم، بعكس يافا الثمانينات، لم يبقَ فيها أطفالٌ ليشهدوا. لقد أُفرِغت المنطقة آنذاك من أهلها. لم يبقَ منها إلا أصداء لجدار الصوت. أُطفِئت الأضواء تماماً. بإمكانكم أن تستمتعوا بالعرض.

المشاركة: