توثيق الحياة اليومية تحت الحصار، كان ومازال مادة أثيرة مطلوبة لدى الوسائل الإعلامية كافة، وقد جرى التركيز إعلامياً على حالة الحصار التي عاشها ويعيشها جنوب مدينة دمشق، وخاصة منطقة مخيم اليرموك، في عدة أوقات بعد أن نشرت صفحات الناشطين صوراً عن حالات موت تسبب بها الجوع. وقد حاول النظام الالتفاف على حصاره الجائر للمدنيين الذين منع عنهم الغذاء وإمكانية التحرك خارج المكان عبر إدخال مساعدات غذائية محدودة بين الحين والآخر، ولكنَّ شيئاً ما لم يتغير في حقيقة رسوخ الجوع كحالة عقابية، يتم تطبيقها على سكان هذه المنطقة وغيرها تحت شعار “الجوع أو الركوع”..! هدوء الحملات التي كانت تركز على هذه الجريمة، وتصاعد الوضع الميداني في المنطقة التي تتصارع فيها فصائل مقاتلة متعددة، غيَّبا الحديث عن معاناة المحاصرين الجائعين، ليحل محله الحديث عن هدنٍ مبعثرة هنا وهناك، تسمح بانفراجات بسيطة لحياة الناس، ولكنها لا تسحب الموت جوعاً كسيف مسلط على رقابهم. ولهذا فإنَّ العودة عبر الكاميرا إلى الموضوع هي أمر مهم جداً، فبعيداً عن نشرات الأخبار، يمكن للعين التي ترصد الوقائع أن تنقل لنا ما لم تقله كلمات المراسلين، وأن تفصّل في الحيثيات أكثر من المقاطع المصوَّرة التي كانت تنشر في سياق الحملات.
هذا ما يفعله الفيلم الوثائقي القصير”حب في الحصار”، للناشط الإعلامي مطر إسماعيل “تجمع ربيع ثورة”، الذي تم إطلاقه ضمن منشورات مؤسسة “بدايات” على موقع يوتيوب قبل أيام. ليروي من خلال “15 دقيقة” مجريات مقطع زمني من حياة أسرة صغيرة قوامها الوالدان أم وسيم وأبو ياسين وأولادهما وسيم ورنيم وياسمين ووسام.
المشهدية العفوية، والتي نلخصها عادة بعبارة “الواقعية”، لا تريدنا هنا فعلاً أن نكون واقعيين في ردة فعلنا، إذ ثمة امرأة تلتقط بقايا الخضار المرمية لتعيد تنظيفها ولتصنع منها وجبة لأطفالها، والنقاش الأسري هنا في بيت العائلة، يصبح مجرد همس يستذكر تفاصيل الأطعمة التي تم الحصول عليها من هنا وهناك، وبينما يتسلى الأطفال بما هو بين أيديهم من أشياء حصلوا عليها بطريقة ما، تتلخص الأفعال بتقطيع الأشياء وإعادة تدويرها، بما يساعد على البقاء والاستمرار، الأم تقطّع بقايا الخضراوات، والأب يقطّع البلاستيك والكرتون وبقايا الأخشاب لإيقاد النار والحصول على الدفء.
الأغاني التي يسربها المذياع تمنح حياة هؤلاء، وكما تنقلها حركة الكاميرا الهادئة، بعضاً من الصفاء، لا تشوشه اشتباكات ولا عمليات قصف، وكأن معدَّ ومخرج الفيلم يريد منا أن نركز على لحظة العاطفة العالية لا على خلفياتها، تاركاً للشعارات المكتوبة في الشارع أن تذكر بهذه التفاصيل. كما أن الشخصيات في الفيلم لا تنطق بخطاب أو تشرح معاناة، بل إن كامل التركيز يجب أن يقوم على رصد اللحظات المكثفة، فمنذ البداية تقوم الكاميرا بالسرد دون أن تصنع مناخاً يوتر المشاهد؛ فالمطلوب هو اكتشاف كوامن القوة لدى الناس، وهم يحاولون العيش رغم كل شيء حصل ويحصل لهم، وهذا ما ظهر بشكل فعلي مؤثر.
وربما كان على مطر إسماعيل أن يكثف من الشروحات المكتوبة في نهاية الفيلم عن خلفيات الحدث ومعلوماته، ليبقي الفيلم بكل تفاصيله خارج المعتاد، وفي المسار ذاته كانت اللقطات الختامية تستحق موسيقى خاصة بها، بدلاً من الأغنية التي استخدمت كخلفية لها. ولكن هذه التفاصيل الإجرائية لا تمنع من اعتبار الفيلم تجربة مهمة في السياق.
رابط المقال على موقع سوريتنا: http://www.souriatnapress.net/archives/16148