فجأة، وجد السوريون أنفسهم وجهاً لوجه أمام مهمات غاية في الصعوبة والتعقيد؛ فاللحظة التاريخية التي فجرت ثورة 2011 ستنقلهم من موقع الهامش في التاريخ إلى موقع الفاعل فيه. سيختبر السوريون بعد هذا التاريخ قدرتهم على إحداث التغيير، وعلى إمكانية رواية حكايتهم الخاصة.
لم يكن للسوريين يوما من حكاية خاصة بهم..
كانوا مادة لحكايا الغير، وكان التاريخ يتمحور حول ظلال قادتهم الملتاثين بعقدة الخلود؛ وكانت سوريا في تلك الأثناء تشبه الثقب الأسود الذي ابتلع الأفراد وخصوصيتهم، وجعل من تاريخ السوريين تاريخاً يضج بالفراغ.
خرج السوريون إلى الشارع شاهرين صوتهم، وكانوا يسعون إلى استعادة فردانيتهم ورغبتهم في المشاركة في نسج تفاصيل حكايتهم الخاصة لا حكاية قادتهم الخالدين؛ وكانوا في كل الحالات ضحايا أزمنة أصبح فيها الموت مشهداً يقترب من الرتابة والاعتياد.
لم يُفاجِئ السوريون العالم بقدر ما تفاجئوا هم به..
صمت على صعيد عالمي، يضع فلسفة حقوق الإنسان على المحك، ويعيد التساؤل حول مشروعية خطاب الديمقراطية السائد في اللغة الأخلاقية الركيكة السائدة.
وكان على السوريين أن يوثقوا موتهم بالصوت والصورة، عسى أن يدرك العالم المتمدن ما يجري هنا، فاللحظة الراهنة تطلبت أن يكون موتنا مرئياً على الشاشات، عسى يستثير تعاطفاً ما من جهة ما، من جهات الأرض الواسعة.
شكَّل الوضع السوري اختباراً لقدرة الصورة على التعبير، وحملت الصورة مهمات ربما تفوق طاقتها، فطلب منها بداية أن تنقل جماليات ما يجري، فانبثقت عشرات الصورة التي ترصد زنود الشبان المرتفعة إلى الأعلى بفعل ينم عن التحدي، والتقطت عشرات الصور لأطفال باسمين وسط الجوع، وعجائز يهزون عكاكيزهم بحركة تنم عن استيقاظ المجتمع بكل خلاياه. وكان غصن الزيتون مرافقاً لأغلب المشاهد البصرية، لما لذلك من دلالات سعى المنتفضون إلى إيصالها إلى العالم.
وفي عشرات المشاهد يظهر بعض الشبان وهم عراة الصدور يتحدّون عدوهم المدجج بالخوف والمتاريس، في مشهد لا تنقصه الدلالات؛ وإذا كانت الجدران في تلك الأثناء لم تتسع لكلمات المنتفضين فستتحول الأجساد ذاتها إلى حيز للكتابة، وستلتقط صور للكلمات في لحظة تمازجها مع الأجساد، وكان السوريون مدهشين في حجم ضجيجهم ورغبتهم في القول. وكانوا يسعون إلى استثمار ما أمكن من الحيز الذي يتحركون فيه راصدين فرحهم وتوقهم وشغفهم بحرية وليدة ماكان لأحد أن يتخيل ولادتها.
وتغير الزمن، وحل الموت ثقيلاً على حياة السوريين..
وغادرت الجماليات من غير رجعة، وكان الزمن، زمن القمع السافر، وكانت الكاميرا مطالبة مرة أخرى بأن تتابع رصدها لما يجري، هنا حيث سيصبح فعل التصوير فعلاً انتحارياً في كثير من الحالات، إلا أن الرغبة في توثيق ما يجري كان أقوى من الموت ومن الحياة ذاتها.
تجسدت الكاميرا كفعل نضالي، ولعبت دوراً قتالياً بمعنى من المعاني، وكانت مطالبة بأن تحاذي الموت وتسير معه خطوة بخطوة.
صدمت الصور الخارجة من جحيم السوريين العالم المتمدن، لا لبشاعة المشهد، بل لأنها ربما أشارت إلى إمكانية إيقاظ القلق النائم في أعماق هذا العالم، فعالم السوريين اليوم ليس على ما يرام، ونحن ليس بخير. وهنا أيضاً اختُبرت مفردات العصر الجديد الدارجة حول أممية ما، وإنسانية ما، وحق في الحياة عابر للحدود، وكان السؤال عصياً على الإجابة: هل نمتلك الحق مثلكم بصنع عالمنا؟
وككل مرة يختار فيها العالم المتمدن أن يكون انتقائيا في طبيعة تعاطيه مع قضايا الشعوب، عزلت صور بخلاف غيرها، أطفال سوريون يحملون السلاح، ومقاتل يذبح مقاتل، ودم يسفك بغير حساب، وكانت حجة واتهام أشهرت في وجه من خرج طالباً حريته وحرية أجياله القادمة، وكانت التهمة جاهزة في أقبية اللغة الركيكة: إرهابيون!.
خرجت الكاميرا السورية عن دورها في رصد الجماليات، وتحولت إلى شاهد عيان ولاعب أساسي في المشهد العام، فإذا كان لابد من الموت، فلن يكون موتنا هذه المرة صامتاً، ولن يمرّ كما حدث في العقود الماضية.
في سوريا مصدرين للصورة أو أكثر، وطرفين لرواية الحكاية أو أكثر؛ عبثاً هنا سنعثر على حيادية من نوع ما، فالجميع متورط بما يجري، وللحكاية ألف وجه ووجه.
احتكم المنتفضون إلى مشروعية انتفاضتهم، وقدموا صوراً كان يفترض بها أن تثبت ما شكل بداهة بالنسبة لهم. فرصدت الكاميرا الشبان وهم يتعرضون للضرب على أيدي جنود النظام، وقال المنتفضون: أنظروا كيف يعتدا على المتظاهرين السلميين؛ وفي الجهة الأخرى، ظهرت صور تظهر المنتفضين على أنهم إرهابيين يستهدفون مؤسسات الدولة، وكانت حكاية أخرى.
ورصدت الكاميرا موت الشبان وهم يهتفون في الساحات، مرة أخرى عرضت الحكاية من منظور آخر، وصوّر الشبان على أنهم أعداء يستحقون الموت. وفي كل الحالات، اكتشفنا أن الصورة وحدها لا تكفي، وأن ما يبدو بداهة بالنسبة لنا، هو موضوع سجال بالنسبة إلى العالم المتمدن.
كان على الكاميرا مرة أخرى أن تسعى إلى الخروج عن دورها وتعمد إلى تسجيل الحقائق أو ما يقترب من الحقائق.
شكلت الكاميرا السورية ومنذ البداية خطراً على امن السلطان، واعتبر حملها تهمة يقع على صاحبها أشد أنواع العقاب؛ لم يكن مسموح بتواجد شاهد على موتنا أو على توقنا إلى الحياة، كان المطلوب أن تبقى سوريا مملكة للصمت والنسيان.
وكان على المنتفضين أن يتحايلوا على الرقابة المفروضة عليهم، فانتشرت عشرات الأنواع من الكاميرات التي تتراوح بين المتناهية الصغر وحتى الكاميرات الاحترافية حيث سمحت الظروف بذلك، وعكس كل هذا تمسك المنتفضين بحقهم بان يكون لصوتهم صورة تعبر عنهم.
واستمر الرقيب باقتناص المصورين واستهدافهم، حتى بات لنا قائمة من شهداء "الصورة"، ومعتقلي "الصورة"..، وفي كل الحالات كانت الكاميرا تشارك السوريين احتفاءهم بموتهم كما بحياتهم، وترصد تفاصيل عالمهم الذي بات لأول مرة عالمهم.
أتيح لكاتب هذه الكلمات أن يتجول في محيط العاصمة دمشق، حاملاً معه كاميرته الخاصة، وكنت شغفاً كالجميع، في التقاط فرح المنتفضين وابتساماتهم، وكان يشدني العجائز في إصرارهم على التعبير عما افتقدوه لعقود مضت. كان جميع من التقيته يحتفي بفرح الانعتاق من سلطة الخوف والقمع، والجميع كان يرسم شارة النصر إن لم يكن بأصابع اليد، فبالعيون الملتمعة.
وتغير الزمن، وحل الحصار والجوع والقصف الدموي على المنتفضين، فخلت المدن من ساكنيها، وهدمت البيوت وشرعت أبوابها على الغبار والخواء.
في الغوطة الشرقية كما المنطقة الجنوبية من ريف دمشق، حلت الأجساد الهزيلة على إثر الجوع والحصار، وحلت الابتسامة الواهية، محل الفرح المدوي، وكنا مدركين بأن مرحلة جديدة كانت قد دخلت بها ثورتنا، وكانت الكاميرا تجهد في التقاط وجع الناس وانكسارهم، وتسعى على ربط تفاصيل الحكاية وتقديمها إلى قارئ يحسن دقة الملاحظة. كانت اللحظة تضج بالتفاصيل، وكان الزمن زمن صمود من خرج إلى الشارع وبات وحيداً.
وفي ظل الحصار والاختناق، وسلسلة الانكسارات، ستعمد العدسات التواقة إلى الإثارة إلى صنع قادتها- الكارزمات، وستحتفي بانتصارات تليق بقادة المرحلة الهزيلين، وخلف المشهد اليومي لعدسات النصر، سيقبع عالم من البؤس والفاجعة، مرة أخرى كان على الكاميرا أن تكون صوت من لا صوت لهم، صوت المهمشين الذين لم ينجحوا بعد في إفهام طغاة الأمس وطغاة اليوم، أن التاريخ لا يكتبه القادة ونجوم الإثارة، وأن المعنى في التاريخ يصنع خلف الكواليس لا أمام العدسات اللاهثة خلف المنتصرين.
سيتحول جرحنا إلى معرض يُقدم على منابر العالم المتمدن، وسيتوسل السفهاء منا رغيفاً يقتسموه على حساب الجياع، وسيبقى الجياع جياعاً والمحاصرين محاصرين. وستستثمر كل خلية من وجعنا، وستوظف الصورة ليشحذ عليها قادة المرحلة سلل غذائية للقابعين وسط الجوع.
وستنتج الأزمة سماسرة بعدد الشهداء، سماسرة الجوع والنكبات، وكان لهؤلاء التجار حصة أيضاً من الكاميرا الباحثة عن الانتقام، فرصدت الكروش المترهلة لمعارضتنا الركيكة، وصورت الابتسامات الغبية على وجوه لم يعد فيها من دم او حياء، وتساءل المقهورين مرة أخرى: من أنتم؟.
في البدء كانت الصورة وليس الكلمة..
لا لأن الكلمة أقل قدرة على التعبير، بل لأن الواقع المعطى للتجربة قد يكون أكثر تعقيداً ومراوغةً تجعل من الإحاطة به والقبض عليه أمراً أكثر صعوبة وتعقيداً. فتأتي الصورة لتقبض على الواقع متلبساً بما فيه من زخم ومن تناقضات، فتثبت الزمن وتجمد اللحظة الراهنة، وتشير إلى أن الذين عبروا من هنا هم أفراد من لحم ودم وليسوا أشباحاً أو مجسمات.
ثمة اليوم العديد من التساؤلات حول أخلاقية أو لا أخلاقية العديد من الصور التي بثها الناشطون السوريون، بيد أن السؤال يبقى حول أخلاقية أو لا أخلاقية هذا الصمت الذي يلف الوضع السوري بالكامل، فهنا مربط الخيل.