24/03/2014
الكاتب: سعيد البطل
ملك الرقعة
(عن الأسئلة التي تأتي لتواجه المرء في المناطق المحاصرة)
24/03/2014
لم تعد الأسئلة التي تواجه المرء هذه الأيام داخل المناطق المحاصرة بذلك العمق، بمعنى أن الأسئلة باتت أكثر قرباً للتفاصيل اليومية منها للأسئلة الوجودية الشاملة. فبات سؤال كـ "ماذا سنأكل اليوم؟" أكثر إلحاحاً وجدلاً للفرد من الأسئلة المتعلقة بمستقبل البلد أو بمستقبل الثورة.
إن دوامة الحياة السريعة والبطيئة في آن معاً، لم تعد تترك للفرد، أيا كانت درجة وعيه، إلا مجالاً يزداد ضيقاً يوماً بعد يوم، حيث لا يتجاوز التفكير أبعد من متطلباته الآنية. فتحضير ابريق من الشاي أو العثور على رغيف خبز مثلاً يستغرق من الوقت الكثير، ويضيع الزمن في دوامة الحطب والنار، وكيف ستملأ خزانك بالماء، الأمر الذي أصبح –للتنويه- بحاجة لدهاء وشبكة مركبة من الخراطيم المتشابكة في مناطق لم يعد فيها أي أثر للخدمات العامة. فمؤسسات هامة كمؤسسة الكهرباء والماء اختفت تماماً لتحل مكانها شبكة علاقات بشرية أكثر بدائية.
لا أعلم ما ستتركه هذه الدوامة القاسية من مشاكل مستترة في النفوس. قد لا تطفو على السطح إلا بعد زمن طويل. لا وقت الآن لنبكي الضحايا على مهل، أو ننتظر ليجتمع الأحبة للوداع الأخير. فمن كان قريباً وعلم مصادفة بوفاة شخص ما، كل ما يفعله هو أن يشارك في الدفن لا أكثر، فمعظم آليات التواصل شبه معدومة ولا أحد يعتب على قريب أو حبيب هذه الأيام. هذا ناهيك عن أننا نتجنب بشكل عام النبش في الذاكرة حالياً.
أسئلة كـ "ما المسؤولية الأخلاقية التي تترتب على حامل كاميرا تجاه الضحايا؟" أو "ما تأثير هذا الكم الهائل من صور الدمار على الروح الناجية؟" تتبادر للذهن أقل وأقل مع كل يوم.
لكني أذكر جيداً كيف دفعني غضب عارم أن أمتنع عن التقاط أية صورة لضحايا الكيماوي. تمنيت وقتها لو أطفئ كل الكاميرات، لا كامرتي فقط. ذلك الشعور قد انتابني مع كره عارم اجتاحني، لبشرية بت أراها وصلت لعتبة إفلاسها الأخلاقي. شعرت أنها لا تستحق أن ترى وجوه أطفالي النائمين بسكينة وهدوء والمصطفين في صفوف طويلة لا تنتهي موشحين بالبياض. حينها وددت أن أحفر المشهد في الذاكرة وأحتكره لنفسي. كانت آثار الغاز التي تجرعتها بدرجات منخفضة ونحن نقوم بعملية الإسعاف وإخلاء الضحايا من المناطق المستهدفة إلى دوما قد أرخت بدني ووسعت الحدقة فبات كل شيء ضبابي وغير واضح المعالم والتفاصيل.
فعلت الغازات فعلها بي فعل المخدر اللطيف، ومنحتني شيئاً من السكينة وسط حدث لا يمكن استيعابه لا دفعة واحدة ولا على دفعات.
عندها تبادر لي السؤال الأخطر "ما الجدوى؟" إنه ذلك النوع من الأسئلة التي إذا فشلت في الإجابة عليها لن تفقد البوصلة وتضيع الطريق فحسب، بل و تمسي دونها عاجزاً تماماً. ما الجدوى؟ جال في داخلي التساؤل عن: ماذا ولم وكيف أصور؟ ووجدت نفسي أميل لصور أكثر قسوة وأكثر دموية كنوع من التنفيس عن صراخ مكبوت، صراخ في وجه بشرية نائمة ترخي بثقلها علينا، و تتبجح بمدى تقدم حضارتها.
صور أردتها أقرب للمرآة في وجه عالم يتجاهل مدى قبحه ويختبىء خلف أطنان من مواد التجميل والتشويش. صور غير مراعية للأخلاق والمشاعر ولا تستبيح حرمة الميت بقدر ما تستبيح عقل المتلقي الهش الذي لا يريد أن يستيقظ من حلم أن كل شيء جميل.
طافت بي الذاكرة عامين ونيف من الآن. أذكر جيداً مجزرة الحولة وأخبارها وصورها التي هزت الأركان حتى أني لم أجرأ التمعن في الصور. كانت قد قادتني الحياة حينها لمدينة "مضايا" لنؤسس فيها ما أسميناه "لافتات مضايا"، ثم لننفذ الفكرة كذلك في مدينة "الزبداني" كونها الحاضرة الأكبر في المنطقة. كانت اللافتات تشكل متنفساً لنا وتدريباً على صياغة الأفكار في جمل مكثفة. رفعنا لافتة ظلت إلى الآن تعبر عن جواب مختصر لكل تساؤلاتي عن حرمة الضحايا، وهل يجب التصوير أم لا؟. تقول اللافتة: "اعتذرت كل القنوات عن نشر صور المجزرة لبشاعتها، ولم يعتذر أحد عن المجزرة ..".
الواجب والرادع الأخلاقي لا يحمله من ينظر من خلال العدسة .. إنه فقط مرسال، لا يختلق الحدث. فلا تتهرب وتلقي اللوم عليه وتنص القوانين التي تمنع الصور الوحشية من الانتشار كي لا تؤذي النفوس "البريئة"! وإن كانت الصورة هي نوع من الاجتزاء، فلم علي التركيز على الجميل والنظيف فيها؟
إنه الواقع كما هو، مهما حورته أو جملته سيبقى قاسياً سيئاً يعكس مدى قبحنا، ومدى بعدنا عن ما ندعيه وأننا أقرب لرجل الكهف الهمجي، بل لربما كان هو أكثر تحضراً منا. من هنا، لماذا يجب على الصورة أن تكون مغايرة؟ إن الصورة التي تليق بنا كـبشر هي ما يحدث دون مواربة أو تعديل، وإن أتت قاسية فلأن الواقع أقسى وما تختزنه النفوس من أسى وحزن و شعور بالغبن والظلم لا يزول بمحاولة النسيان، بل يستمر بالتراكم إلى أن يأتي وقت وينفجر. وكلما زاد كلما كان الدوي أعلى، و مداه أبعد.
لذا يا صديقي "المثقف" وأنت تجيد لغات كثيرة وتتذوق الفن ولك نظرتك الخاصة للفلسفة وللعالم إذ سمعت أن أحداثاً بهذه الهمجية ما زالت تحدث، أراك تترفع عنها وتدعو القاتل والمقتول بالهمجي! دعني أبشرك أن كل ما يحيط بك بات مضرجاً بالدماء وستدور الدوائر وتدفع ثمن تجاهلك. أنت كنت وستظل ترى أنك لم تخطئ بحق أحد، لكن دعني أذكرك "على الأشخاص الطيبين فعل لاشيء، لكي ينهض الشر".
أنا لم يعد لدي ما أخسره من روحي إلا القليل. وبعض أقل من "الإنسانية". رويت قلبي بأنهر وأنهر من الدماء ولمسة خفيفة من الدموع. لم يعد هناك ما يفاجئني أو يشعرني بالقرف أو الحاجة للتقيؤ! لا مشهداً ولا رائحة باتت تمتلك تلك السيطرة علي. ما تزال العدسة بيدي أستند عليها كعكاز هرباً من شعور واحد ووحيد لا تزال لديه القدرة الكافية لزعزعة نفسي وجعلها ترتجف، ألا وهو ذاك الشعور بالعجز واللاجدوى. لا شيء آخر يبث القشعريرة في قلبي ويخيفني حتى النخاع، إلا هذا الشعور. لذا في أبسط الأجوبة لدي العدسة، ولدي الوهم أن الأمور الآن باتت أوضح بالنسبة لي. لدي فهم أكبر للعبة التي تدور على هذه الأرض، فهم جعلني أرى الانسان قميئاً بالمجمل معشقاً بالكذب والخداع منقاداً خلف شهواته الآنية التي جعلت منه أسوء أنواع العبيد. العبد الذي يظن أنه حر، هو ذلك العبد الذي لا يمكن تحريره. وأنا لم أعد أصور ليرى هذا العالم أو ليعرف أو ليشعر. فقدت الأمل منه منذ أمد طويل.
رضيت بذاتي مرمياً على رقعة الشطرنج كبيدق لحماية ملك، قلت إن كان لابد من الذي لابد منه فلأختر أنا "ملكي"، ملك يستحق التضحية في سبيله.
ملك لم أجده يتمثل لا في أرض ولا في قومية ولا في دين ولا في ايديولوجية، فلقد رأيت كيف تباع وتشترى رموز كتلك التي ذكرتها وكيف أنها لا تلد سوى المزيد من العبيد والمزيد من الجنود والمزيد من الحروب.
اخترت الأرواح التي لم تلد بعد، توسمت في هؤلاء الأطفال "ملكي" الذي عنه أدافع وفي سبيله أضحي. وإن كنت لا أملك أن أقدم لملكي الكثير، فلأكن له عيناً يرى بها زمنا قد مضى. يا أبنائي هكذا كنا بهذه الوحشية. لن أخفي عنكم أي شيء، لا بروادع أخلاقية ولا قضائية. لن أسعى للمحو أو لتستير العيوب، ولن أملأ عقولكم بالأوهام. نحن أحقر بكثير مما ندعي ومانزال عبيداً لملذاتنا الآنية ومتطلباتنا المترفة التي لاتنتهي. نحن مستعدون أن نحرق الأرض من أجل أوهام السلطة أو المال أو الجاه. الأمر متروك لكم وبقايا الأمل الشحيح عليكم تعلق. أمامكم الكثير والكثير من العمل لننهض من واقعنا القميء، المسؤولية عليكم مضاعفة. فقد وصلنا تقريباً لنقطة اللاعودة، فإما أن ينهض الوعي الجمعي وتستفيق البشرية أو نسقط في الهاوية التي قد لا يكون منها مخرج لا لجنسنا فقط بل لكل ما على هذا الكوكب الأخضر الصغير من حياة.
لذا مع كل مرة أستل فيها عدستي لا أسعى سوى خلف الحقيقة، ولا أراعي سوى معايير الصدق دون اكتراث للألم والدماء أو للسياسة والآراء، مجتزءاً من الواقع أقسى الحقائق. الأمر متروك بعدها لملكي وبقايا الأمل الشحيح عليه تعلق.
إدراكي لهذا الأمر يزداد رسوخاً يوماً بعد آخر، و معه أزداد فهما لسعد الله ونوس. ففي النهاية "إننا محكومون بالأمل" حكماً وجاهياً غير قابل للطعن.