17/05/2019
الكاتب: معتصم الديري
كنتَ توقظُ فينا تنبهّنا، تَجيءُ إلى أسماعنا مثلَ مواءٍ بعيد.
وكان هو عريضاً كاستطاعة البقاء هناك، يحبّ أن تمشي قرب ركبته مثل أسود واعدة.
أقصرُ شبراً من جدارِ الدار، مطمئنٌ كأنَّهُ، مُذ حملكَ مثلَ نايٍ جديد، جاوزَ كلَّ التيه.
تقعدُ وتشربُ الشاي معنا كالأشجارِالصغيرات.
لمْ يُفاخرْ : "انشققتُ عن "سانا" لأحرّرَ نفسي فأبتدأت البلاد".
ظلَّ في القرية حَتى سُدَّ الليلُ والنهار. زاحَ ظلَّهُ إلى عمان شهوراً، عزَّ عليهِ رَخاءُ طمأنينةِ مُستَغرَب.
أعرفه. لعلّه أحسَّ بالطقسَ فلول، عادَ مطمئنا كلَّ جيرانه ببندقيّة.
و أنتَ تموءُ بنصفِ أسمائنا، تمشي قربَ وجوهنا وتجربُ حظَّك في الكاميرا، تصطادُ إصبعاً لكْ، تحدّقُ في بنادقَ لم تُبَع على أسوارِ الجوار. و حينَ كانَ يفغرُ الفولاذ في الجهات، كان يمرركَ، كمن يطالُ دلو ماء.
شردنا سويةً في سوادِ غرفةِ الفول التي أحرقها الجيش ذاك الشتاء. ينقطها أخضرٌ غضٌّ لحباتِ فولٍ نَجت واستمرّت نحوَ السقف الذي شابه السماء.
مثلَ نُشوئنا نابئين، وفوقَ القبولِ بضآلة ذاكَ الحال المفروضِ علينا، حصارٌ من الجيش الذي ركّب على أهله المجزرة ومن جهة أخرى رمياً بكلام المرتاحين عن حدثٍ توسّط دورَهم ومَهاجرَهم، وصار ذلك الوعظ حصار قطيعةٍ أو ولاء.
كُنّا ماثلين بالحقيقة، مُحقين ومُسرعين لأنَّ الأرض كلها كانت زماناً يستعجل عجلاتنا -إذ تطمح. و عدوّ كلّ مطالبِ الحراك كان قتلا فقط.
كانَ ثملاً ذاك الأسد العدو. كيف تَكفرُ هاتيك المفاصل والأحلام الشابَّة عنه إلى سقفٍ أفضل .
ولعلّي أذكرك: كان لديك عمٌّ اسمُه أحمد في أول العشرينات، أوقفه راعي السقفِ، الواطئ على نفسه وعلينا طبعا، عن متابعة الجامعة لعدم توفّر خمسين دولار في بيت جدك.
كان عمك أحمد يفركُ النكدَ إذا قام في المكان، فطناً كعودِ رمان يشاكسُ جهةً وأختها.
كانت تلك فصولاً عديدة غير عادلة المواجهة. قطع مدجّجةٌ من لؤم العبيد تحاول تاجاً كلّه مذبحة.
يخنسون حين يرجُّ النهار نحوهم حرائق حقْ؛ حرائق حقٍّ إذ تقوم لا يغمسها الذبول.
كان الجيش قدْ حاصر حتّى المقبرة. والجوارُ قريرٌ مثلَ سادةِ الدور البعيدة زمناً، في أفولٍ عن أن ترود في ما فيها، طرية السوط والأصوات في ساعة الاستثناء تلك.
تحصدُ المدفعية شجرَ الدار، يظلُّ الرمان مائلاً للجارات والبقرات الكريمات، قاماتنا ولا أحدْ.
كأنّنا نهمسُ في حريرِ البنات نُخلي بالشراشفِ دمنا في أولادٍ وأجداد، نُخبأ عن موت عرفناه أحلاماً قد تشبُّ وتكون ونمررهم.
و نعودُ، لا نعرفُ كمْ خَسرنا، لا نعرفُ كمْ رَبحنا، ندخلُ بعدَ التفقد وننجزُ ضحكة.
بلى! ولتعرف، كُنَّا من وقتها ندري أنَّ الحدثَ الأغلى في وجودنا صارَ ورطةً تامة، إنما ماذا يفعلُ الثائرون بالطريق إلى زمانٍ أفضلٍ إذا كانت نصفُ الدور استسهالاً، جبناً، والأهم "تصرفات وأخلاق" مع أسدٍ دنيء، أعمى ويسخى أن يأكلَ حتى خشب الغابة!
بلى يا صديقي! كانوا في عزِّ نهضة الكون كله يأكلون المدن السيدة، ويضيّقون علينا نحن الكرام، مشينا في إراداتنا و كَمَّنا من الوجود، عابسين أو باسمين في طرقات طالما حككنا اسمها عاليا عَدْواً، و بأطراف من نحب نحو الأفضل، الذي لم يرونه إلا في مفاتيح السلطات.
و مما أضيق علينا أيضا في ذاك الزمان شكلنا الحر في تجنبٍ طبيعيّ ومُهم لخنوسٍ كان يُراد لنا في تطبيع الصفات الجاري في المؤسسات والجامعات والطرقات.
نحن الذين لا نخاف، رغبنا كطبيعيين: أعلى وأكثر من الجدار الذي كان قبةً مقارنةً بما نراه الآن.
على فكرة : هذا الجدار الذي كان سيظلُّ قبة واطئة على الجميع لو لم ننتفض في آذار.
تعال تخيَّل كمْ هشٌ الآن ذاك الحدث الأغلى والفارق حتى أنَّ ثمّة من يبرّره أو يعتذر عنه.
"طبعا لا أبرره" ، أقول لك .
تبقى الثورات أقدار مشرِّفة وضرورة طالما عرفها الكون الذي من سماته النمو والحركة لا السكون وحسب.
أزاحت أنظمة و حكَّام. أمٌ أنجبت أجيالاً كانوا سيزرعونهم على وجه الأرض كالجماد و الدود و النبتة الضامرة .
قلت لك أكثر من خمس سطورٍ لأخبرك عنَّا أننا كنا محقين في أن نحاول تماماً ما !
ها هنا يا صديقي ما لا يُطلب من سجَّان عقول وأحلام، و كنَّا لذاك التمام، نستخرجه وفقاً للظرف وحالات الصف في النضال.
و لم نكن حالةً لا تعي ما تفعل وتتسلل من غير نظام، بل في جمة الضغط تلك نتصور حالات يوم سيجيء.
نَمَت يا صديقي بنا مدنٌ وازدهرت يوم صار ذاك الطلاق ، و خففت كف القاتل وقتاً .
ثم لم تهدأ سماء كفه عناً، حتى صار الجنوب مبعثراً إلى مدنٍ وقرى مثل ولايات منفصلة؛ كلّ قرية تهتم بنفسها أو تجد قريتين أو ثلاثة تزوجن ذات المصير.
ونَدَرت نُخب تملأ حيزها كما يَجبُ. فتعبىء صف المقاعد الأولى بمن يعيد ولا يرود .
مرة مساءً بعدَ حضورنا اجتماعاً مليئاً ببؤس الحال والصمود الموقَّع على أن لا تنازل في مسألة تسليم البلدة.
على باب دخلتكم إلى بوّابة دار جدّك، أسند أبوك ركبته على ركبتي، كنَّا مثل جدين قديمين يقيمان جذراً.
قالَ لي غيرَ نادم وغير مرتاح: تفضّل، ها قد تورّطنا بلا رجعة كلَّ النهار، كلّ النهار المعلّق فوقنا حمماً وبطء تطوّر، أردناه أجدى. لا أظنّه قد يُرى.
لم أستطع أن أسكت، التقطت صورا لكل شيء حولنا، وما زالت لديّ. ومشينا في الممر نخفُّ في سلام لذيذٍ كخطوٍ على زمان وأسمنت بدا أقدم.
وقتها ابيضَّ قلبي حينَ مررتَ لي صحن أرزٍ بحليب دافئ، ذاك الودُّ العالي يُقطّرُ البرد في وجه مدخنة، وليٌّ على الذاكرة .. طبعا لا تعتقد أنني من أجل برقة الصحن تلك فقط أكتب إليك.
نمتُ يُحالفني شباكٌ وقورُ الوجه إلى الفلفلة.
صباحاً طارت الحارات والأبواب تهطل مع الأمطار.
باعدَ بين اسمك ونشرة الأخبار إلى قبوٍ في شمال القرية، حقاً نقص الصباح الذي يبسم على المكان.
بدأ تضخم الساعات في الممرات يشدني إلى أعلى، والأفق أضيق كالخزانة.
دخلت بعدكم فصولٌ كثيرةٌ من الشباك والباب، نامت قرب الأحذية الزائدة ..
جافرةٌ حفلات الشاي
أولادٌ وردةٌ نائمة وشيءُ كانَ شوكةَ واثقة
تنتهزه كلُّ الرايات ومن غاب ، وما غاب
يخرز في عين الخوف حضرة.
لا ندسُّ الشمس في الجيوب، في اسمك المشاهِد نقدرُ على المزاح.
و بلى، كان يفلت منَّا الميزان على بعضنا في نزقٍ، في نزقٍ ضروريٍ لتقاوم.
مسرعاً للقرية مثل وفيهِ بالوعود الهامة، كلُّ حديثه نعم.
هكذا طارَ أبوك إلى أرضٍ لله أولى فارداً أيامه في غيمٍ، قال النهار الداكن مطراً و غصات ..
كلُّ وصايا الضحك والدفاتر نبضت مرةً واحدةً فيّ، قضيتُ النهار في النوافذ .. لم أبكِ كمن يثني لكني ثقلت ..
رأيته في حلم ضيَّفَ بعض الأصدقاء عتاباً وسلاماً غير تام في ذراعه. ناولني عهداً شدَّ بحبّ فشددت ..
كان ذاك أسابيع ناقرة .
كل طوابق الصبح بلاء ينقط : قتلى، وشهداء.
و سمعت ليلاً في الليل يهدهدُ : ألف هنيئا لطلاقكم، لا تنعسوا، فلا أنعس.
وبين الغار والغارة يتبدل كمٌ، قلنا : بالباب؟
قال : بالباب.
و كان ثمة شيء لا يشمّه أيّ ميعاد.
وأبوك كان فينا، لم يهن عروق الشام وبوادٍ مرةٍ في شباب نيّموا حنينهم قرب بنادقهم والله. وغنوا كالتلفاز
بل ظلَّ مينا
يوم كنّا للكشف نماشي
ما عجزنا .. هل يعجز العوالي!
ذاته الكون الذي انفجر بعض مراتٍ بعد الحروب العالمية يغلي في أكثف صورة له عند دورنا
مثلما أتيحت الجغرافيا كلها، ينزُّ الحاضرُ جديداً من آين الله .. وعي طليق تفتح كالأبواب الجديدة في سموّ عند كل هذا العقار.
السموّ الذي أيقظ أكوان كل هذه البلدان، كلَّف مدناً بحالها وسكانا . كانوا نحن ومدننا.
مدن تدري وأخرى تقول ومن غيرعمى أنّنا ثرنا لهذا الوعي والسمو فوق سقف أولئك الطغاة، نحو قيم وأصول أجدر وأجدد من هشاشة ذاك النظام والقابلين سقفه.
لهذا يا رفيقي تحدُث الثورات، تبالغ الحرب فيها ، و لهذا لا يمكن إيقافها: إما الدخول فيها بشغف حتى النهايات التي رويت مشهد بزوغها وخساراتها في الرسوخ سريعاً كحال، أو الانسحاب عنها كعرسٍ لم يكتمل، وهذا ما يجعلنا في مدارات ..
البعض يحاولُ بابه، دربًا يعرفه، خطوات أيقنها .. والبعض الناقص يا صديقي يؤجرون قلق السقف فوقكم مراتب.
فصار الأمام إلى أسوار ..
بلى أسلم عليكَ من حضيض عربٍ تكون ..
جرّبت. جئت
مهملة كانت تلك الأرض. كان لا يحصدها إلا المغلوبون والمتاجرون وأصدقاء قلّما يتساءلون.
لم أجدك .. لم أجد سوى الحزانى ينتظرون الطيور، والجياع يعدون الحزانى، والجنوب يغورُ إلى ما لا يبدو.
كان النائمون على المدافع القدوة أبهى قليلا من حيث الشكل ولون الحرارة عند الأفول.
فلا يشع إلا نجوداً يتناوبها الصبية والنجوم المكتفية بما حصدت .
و ثوارٌ تضائلوا مقدرةً وظلُّوا بروجاً ينازعون على حصتهم في العدل والرفض والسماء.
رأيتهم ما سرقوا حفنة سكر.
كان الجنوب فضة وبرتقالاً يصل إلى نشوة العصر بما تعب وحلَّق واحترق في كنه الذاهبين
ولكنه ما عاد يدفع قدميه إلا في استثناء قاصرة، كي يتأكد من مواقع الأغراب
رغمَ أنّه كان يقدر أن يحرّر ساعداه من غرقه في الحليب الناشف في علب المساعدات وتسكين الثور في اتكاءة الحدود والوديان
و يكمل دونهم كما هو حراً عصياً في رنوة التكوين.
طرنا فوق الجنوب للجنوب سنيناً.
توقّعت نكوص مدينة! .. لا
توقعت هروب جهة من حقل الله ؟! .. لا والله
كنتُ أبازر صاحب بيتٍ يسعُ مراري على الطبولِ القادمة حين فلقت غارةٌ خبزَ الكلام بيننا واستتبت الحصون في جبيرة برتقالية في قدمي اليسار.
اللون الذي ناولني غمزةً في غرفة الدم وشابكني في غَمرةٍ كالزوجة بين من كانوا يتبّدلون حولي على الأسرَّة ويذهبون.
بقي ذلك مجرّد جرح مع وعيي فيه، كان الألم يا حبيبي أن يتحوَّلَ الريف الأبيّ حولي إلى أعداء هتافه الأول، و يُسيل أناه ونار سنينه في المجلى:
سننزل عن أعلى الدار. فقط أعطنا يا كفناً خبرناك على أولادنا فوق دورنا، ما لا يجعلنا نبدو خاسرين أو غرقى وخراف .
خذوا سرونا ولا تقصفونا!
بدا وجهي ترابيّا في مرات نهاياتي المستمرة تلك، وصوتي غريبًا عمّن فكوا وعودهم وعادوا كي يعودوا.
للحظة بدا باص الهجرة للشمال بعيدا، مرَّت برقةٌ في عيني، دمعت
لكنني مستيقظٌ لا أنسحب. قلتُ ألفُّ حطتي وأرعى غريبا في جرود نائية، ولا أصالحَ من حزَّ يا ولدي في أصدقائنا الضيقَ والحرقَ.
وبعد أسفارٍ ابتعادها لذيذٌ، صعدت باصاً بطول الدخلات الطويلة إلى بيوتنا، فرحاً ولو مجازاً أني سأنام.
بجانب جاري السائق الدمشقي الساكت في الكلام، القائل في المرآة وفي الصمت والهمس ما نحن عليه من فقر وثراء.
صمته المفروض ذاك كان بالنسبة لي أبداً لا يُشترى، شراءً مُضنكاً سكينةً لا تنشلك.
اشتراه سائقُ رحلتنا القصيرة كي يعودَ إلى دمشق التي، من دون شكٍ، صارت في الخلف.
آمناً إلى سهرٍ استطعتُ النظرَ في سمائه ِ المكوّنة في الناس التي بُعثرت. وصلتُ الشمال من دون جبيرة، أشرب قهوتي قرب تلفازي الباب، و لا أسَفِّه كل َّما يحملُهُ النهار.
إذا عدت إلى الديار سلم لي من جهة البوابة الشمالية على سروتي والفلفلة .
و أنتَ في اسمك يومَ تكبر أو تبدله بعرجون حروف، تجدّل شعركَ كمزارعٍ سَهُور وتشرب الويسكي بوعي الواثق بوسع تشاريع الله .
أتمنى لك أن تصبح كأبيك، في حالات القول والوضوح وسهرٍ ذي عزمٍ متى صار الحدوث.
تَذكَّر لا تنسَ ..
و السلام ..
(إلى بشير مهران الديري)