السينما التسجيلية : تاريخها، أبرز منظريها ومخرجيها، خصائصها النوعية والأسلوبية
11/04/2019
الكاتب: علاء رشيدي
قبل العام 2011، يمكن الإشارة إلى تجربة المخرج السينمائي السوري البارز عمر أميرالاي (1944 – 2011) كواحدة من التجارب الهامة في السينما التسجيلية. لكن لا يمكن الحديث عن تيار سينمائي سوري يمكن أن يطلق عليه سينما تسجيلية إلا بعد العام 2011. تتعدد الأسباب التي أدت لبروز تجارب سينمائية سورية تسجيلية بعد العام 2011، نذكر منها على سبيل الإيضاح، وليس على سبيل الحصر: غياب حرية الصحافة، غياب الصحافة الأجنبية عن الداخل السوري، حرب التضليل الإعلامي والتضليل الإعلامي المضاد، التي دفعت باتجاه سينما أكثر تسجيلية، وكذلك رغبة السينمائيين في توثيق التجربة السياسية، الاجتماعية، الثقافية التي تمر فيها سورية.
لكن ما هو تاريخ السينما التسجيلية؟ ما هي أصول هذا النوع السينمائي، ومتى نشأ؟ من هم أبرز مخرجي ومنظري السينما؟ وما هي المميزات الفنية والخصائص الفيلمية للسينما التسجيلية؟
هذه المادة محاولة لتعريف القارئ، الناقد، وصانع الأفلام العربي بنشأة السينما التسجيلية وتاريخها، أبرز منظريها ومخرجيها، والقواعد الأساسية للسينما التسجيلية، والخصائص النوعية للفيلم التسجيلي.
النشأة والتاريخ:
تطورت السينما من الفن الفوتوغرافي وكلاهما يعتمد على الملاحظة. فحينما أدار الأخويين لوميير أول شريط سينمائي استعملا آلة التصوير المتحركة، أي الكاميرا، كآلة تصور الحياة من حوله، فبدآ بتصوير عمال وهم خارجون من المصنع، ولذلك يمكن اعتبار أول فيلم سينمائي فيلما تسجيلا، وكأن الكاميرا منذ بدايتها أخذت دور تسجيل العالم الحقيقي من حولها، وهو أساس لمفاهيم السينما التسجيلية. لكن السينما اتجهت تالياً اتجاهاً آخر، أي نحو سينما المسرح، وسينما الاستديوهات. ولم يستعمل مصطلح "السينما التسجيلية" حتى ثلاثينيات القرن العشرين.
يبين (فورسيث هاردي) في كتابه (السينما التسجيلية عند جريرسون)، أنه وفي أوائل العقد الثالث من القرن العشرين بدأت تظهر في المطبوعات العامة كلمة جديدة واسم جديد. أمّا الكلمة الجديدة فكانت (الأفلام التسجيلية) وأمّا الاسم الجديد فكان جرين جريرسون. والواقع أنّ كلمة الأفلام التسجيليّة ظهرت لأوّل مرة في مقال فنيّ كتبه جرين جريرسون لمجلة (نيويورك صن) في شباط 1926. وقد اقتبست الكلمة عن تعبير كان الفرنسيون يطلقونه على أفلام الرحلات والأفلام السياحية.
أبرز منظريها: جرين جريرسون (1898 – 1972):
استخدم جريرسون كلمة (فيلم تسجيلي) ليصف فيلم (موانا، 1926) الذي أخرجه (روبرت فلاهيرتي) وصوّر فيه حياة سكان جزر البحار الجنوبية. وقد حدّد جريرسون في ما بعد ما يقصده بوصف "التسجيلي"، إذ قال :(إنّ الفيلم التسجيلي هو معالجة الأحداث الواقعية الجارية بأسلوب فيه خلق فني). وخلال خمسة عشر أو عشرين عاماً أصبحت كلمة الأفلام التسجيلية تعبّر عن نشاط سينمائيّ واسع يتمثل في استخدام الأفلام للتحليل الاجتماعي.
لذلك يعتبر البريطاني جرين جريرسون، أوّل المنظرين لحركة السينما التسجيلية. بدأ جريرسون يكتب عن جماليات الفن السينمائي كمجرد هواية، ولكن اهتمامه الرئيسي كان منصباً على تحليل تأثير السينما في الجماهير كما يتضح من إقبال الناس على الأفلام المختلفة. وبهذا فإن جريرسون لم يهتم بداية بالسينما باعتبارها شكلاً فنياً وإنما باعتبارها وسيلة للوصول إلى الرأي العام.
في العام 1933 كتب جرين جريرسون في مجلة (الصوت والصورة) يوضح أن الفن هو واحد من عناصر الفيلم السينمائيّ. وإذا أراد الإنسان أن يحس بالمتعة المطلقة للأشكال فمن الأفضل له أن يتجه إلى اللوحات الفنية ليتأملها ويكتفي بها. بينما أناط بالسينما مجالات أخرى غير فنية منها: دور السينما في التعليم، دور السينما في الدعاية، فرأى أن السينما، كالكتابة تماماً، يمكن أن تتخذ أشكالا مختلفة وتؤدي وظائف عديدة. رأى قدرة السينما على تقديم الوصف المباشر للواقع، كما تستطيع أن تقدم تحليلاً بسيطاً ونتائج محددة.
كتب جرين جريرسون في هذا الخصوص : (ليس في وسع أيّ أسلوب في الوصف أن يضفي على الشيء البسيط طابعاً من النبل مثلما تفعل الكاميرا حينما تنظر إلى هذا الشيء من مكان منخفض. وليس هناك ما هو أبلغ في التعبير من مشهد تمّ تقطيعه حسب إيقاع زمنيّ محدّد. ولعلّ أهم شيء فيما يتعلق بالسينما أن العبارة الواحدة أو المشهد الواحد يمكن عرضه كل ليلة آلاف المرات على ملايين الأعين كما يمكن أن يتكرر العرض على ملايين الناس عدة أعوام. وهذه الحقيقة الهامة تتيح مجالاً جديداً للاتصال بالجماهير وأملاً كبيراً في إقناعها).
كان ظهور فيلم (صائدي الأسماك) لجريرسون بمثابة تجديد في الحقل السينمائي، وذلك لأنه يستمد مادّته الدراميّة من الحياة الواقعيّة في بحر الشمال. لقد دعم هذا الفيلم رؤية جريرسون على اعتبار السينما أهم وسيلة يستطيع أن يستخدمها لأغراضه كعالم اجتماعيّ، وقد كتب ذلك في ما بعد : (كانت حركة السينما التسجيلية منذ البداية عبارة عن محاولة لتسجيل حياة الجماهير. وكانت القوّة الرئيسيّة الدافعة خلف هذه الحركة قوّة اجتماعيّة وليس إحساساً جمالياً).
وقد أدّى نجاح فيلم (صائدي الأسماك) إلى إتاحة الفرصة لجريرسون لنشر أفكاره، وبدلاً من أن يخرج أفلاماً جديدة وجه كل نشاطه نحو خلق وحدة سينمائية وتدريب أفرادها، فجمع حوله مجموعة من الشبان: بازل رايت، آرثر ألتون، ستيورات لج، بول روثا، جون تايلور، وهاري وات. وهكذا تأسست وحدة أفلام غرفة التجارة الخارجية البريطانية التي اهتمت بدعم تجارب السينما التسجيلية.
بين عامي 1930 و1933 نمت وحدة أفلام غرفة التجارة الخارجية في عددها من شخصين إلى ما يزيد عن ثلاثين شخصاً، وأنتجت ما يزيد على مئة فيلم. من الأفلام الجديرة بالذكر مجموعة من سبعة أفلام تبعت فيلم (صائدي الأسماك) وعرضت في دور السينما. من هذه الأفلام:
(بريطانيا الصناعية، روبرت فلاهرتي)
(الريف ينتقل إلى المدينة، بازل رايت) ويدور موضوعه حول أسواق لندن.
(في الجبال والوديان، بازل رايت) يعرض يوماً من حياة راعي غنم.
(في مجرى النهر، آرثر ألتون) وهو يصور صيد سمك السالمون في اسكتلنده.
(ظل على الجبل) وهو يهتم بتصوير التجارب العلمية التي تجري في مراعي بريطانيا.
وقد اتخذت قيادة جريرسون لهذه الحركة أشكالاً عديدة:
إذا كان جرين جريرسون أول ناشط ومنظر للسينما التسجيلية، فإن المخرج الأمريكي روبرت فلاهرتي، يعتبر المخرج وصانع الأفلام السينمائي الأول في حركة السينما التسجيلية.
أبرز التجارب السينمائية والمخرجين:
روبرت فلاهرتي (1884 –1951) : في العام 1921، عاد فلاهرتي من المحيط المتجمد الشمالي وفي جعبته فيلم (نانوك)، الذي يعتبر من الأفلام الرائدة في السينما الإثنوغرافية. فيلم (نانوك) يروي قصة بسيطة عن حياة عائلة من الأسكيمو وكفاحها من أجل القوت، إلا أن أسلوب فلاهرتي في المعالجة السينمائية كان يعد في ذلك الوقت فتحاً جديداً تماماً. لقد كان الفيلم تسجيلاً للحياة اليومية بامتياز، وبدقة في اختيار التفاصيل وفي تسلسل الأحداث والعمق في تصوير اللقطات، وتقدير للفروق الدقيقة بين المشاعر المشتركة، بحيث أصبح الفيلم عملاً دراسياً أعمق في تأثيره من كل ما أنتجته الديكورات الصناعية في هوليوود. (نانوك) إذاً هو الفيلم الأول الذي يمكن أن نطلق عليه وصف "فيلم تسجيلي".
بعد ست سنوات، قدم فلاهرتي فيلم (موانا). اتبع فلاهرتي المنهج نفسه مع قبائل ساموا، فبدون استخدام الممثلين، بل بدون تمثيل تقريباً، استطاع أن يسجل بآلة التصوير القصة الرئيسية لحياتهم.
من هنا أثبت فلاهرتي أن الاتجاه السليم لتحقيق الفيلم التسجيلي هو البحث عن القصة التي تنبثق من المنطقة ذاتها، والتي لا بد أن يجدها المخرج إذا توفرت له الفضائل الجوهرية وهي الصبر والمعرفة الوثيقة بالحياة. بين فلاهرتي أن القصة لابد أن تنبعث من المكان الذي تدور فيه، وأن هذه القصة يجب أن تكون القصة الرئيسية لذلك المكان.
فكرة فلاهرتي عن صناعة فيلم تسجيليّ، هو أنّه لا بد للمخرج من دراسة البيئة الثقافية والاجتماعية، والتعرّف عليها لعدّة شهور قبل تصوير أي جزء من الفيلم، ثم لابدّ أن تنقضي بعد ذلك عدّة شهور أخرى في إعداد الفيلم ببطء قبل أن يظهر على الشاشة، ويتمّ ذلك على مرحلتين إذ يستخدم فلاهرتي الكاميرا أولاً لتصوير مادة فيلمه وتسجيل شخصياته، ثم يترك لعمليات المونتاج أن ترشده في كل مرحلة إلى الاتجاه الدرامي للفيلم.
أما عن الصوت، فيتوجه فلاهرتي أن يستخدم الميكروفون كما استخدم الكاميرا، متخذا منه زميلاً وثيقاً للحركة، يسجل من الأصوات والهمسات والصيحات المصاحبة أفضل ما يعبر عن هذه الحركة. وهو يقول أنه لا أهمية للغة أو حتى للكلمات، إذا كانت روح الحركة واضحة. وفي هذه النقطة وفي غيرها تختلف نظرة فلاهرتي للسينما عن النظرة المسرحية التقليدية اختلافاً شاسعاً. فالشاشة عنده ليست مسرحاً تدور فوقه الحوادث، بل إنها عين سحرية يمكن أن ينظر المرء من خلالها إلى العالم الفسيح ليرى ويسمع دقائق الحياة التي نعيشها والتي يستطيع أن يكشفها لنا الفنان السينمائي مستعيناً في ذلك بالكاميرا والميكرفون.
في فرنسا، برزت تجربة المخرج مارسيل إيشاك في تحقيق أفلام تتعلق بحياة الجبال، وحازت أفلامه على عدة جوائز عالمية، منها فيلم عن سلسلة جبال (قراقرم، 1938)، وفيلمه (الأنقضاض على الشيطان، 1942)، و(النصر عند قمة آنابورنا، 1953)، وهو أيضاً صاحب التجارب الأولى لأفلام تخصصت بموضوعة المغاور. جورج روكيه، تجربة أخرى من السينما الفرنسية، فيلمه (فاربيك، 1947) يتابع حياة عائلة فلاحين على مدار فصول السنة، بكاميرا تتبع أنشطتهم كما تتبع علاقاتهم. كذلك نشير إلى عدد من الأفلام الفرنسية القصيرة التي أنتجت خلال فترة الحرب، منها (صانع البراميل، 1942) و(صانع العجلات، 1943) وكلاهما لجورج روكيه، وكذلك فيلمين لروجر رينهاردت بعنوان (رسالة من باريس، 1945) و (ولادة السينما، 1946)، وفيلم رينيه كليمانت (الرعوية الكبرى، 1942). كذلك يمكن ذكر الأفلام العلمية التي قدمها كل جان بينلوف (مصاصي الدماء، 1945)، وأفلام الإثنوغرافي وعالم البحار جاك إيف كوستو، أهمها ( 1 متراً في العمق، 1943)، (حول الشعاب المرجانية، 1948)، والفيلم الحائز على سعفة مهرجان كان الذهبية للعام 1952 (عالم الصمت).
بين أعوام الخمسينيات والستينيات، عرف الفيلم الوثائقيّ الفرنسيّ قفزة نوعية بسبب تطوّر التقنيات والكتابة النقدية التي واكبته. الفيلم الكندي (المتزلجون، 1958)، يعتبر نموذجاً لهذا التجدد في الفيلم الوثائقي. كما أن مشروع وزارة الزراعة الفرنسية التي اهتم بإنتاج أفلام وثائقية عن قطاع الزراعة، استنهض العديد من المواهب الجديدة، سيكون منهم لاحقاً العديد من الوجوه الإخراجية البارزة في عالم السينما التخييلية مثل :آلان رونيه، آنيس فاردا، وموريس بيالا.
السينما الوثائقية الفرنسية عرفت نهضة أخرى في نهاية التسعينات مع أفلام مثل (أبناء الأرض، 2000، إخراج أريان دوبليه)، الذي يتناول حياة الزراعة وعادات الأسر الريفية، وكذلك النجاح المنقطع النظير الذي حققه فيلم (Être et avoir، 2002)، إخراج نيكولاس فيليبير، الذي يهتم بموضوعة التعليم، ويتابع السنة الدراسية لأستاذ وتلاميذه الذين يتراوحون بين 4 و11 عاماً. وفي العام 2017، أسس في فرنسا المكتبة الوطنية للفيلم الوثائقي (Cinémathèque du documentaire).
من بين أبرز المخرجين في حركة السينما التسجيلية أيضاً في تلك الفترة، والذين حاول جرين جريرسون بمقالاته عن أفلامهم التنظير لحركة السينما التسجيلية كان: كافالكنتي في فرنسا، روتمان في ألمانيا، فلاهرتي في أمريكا، وسيرجي إيزنشتين من الاتحاد السوفيتي.
ويبين جريرسون أن حركة السينما التسجيلية في كل بلد مهما تأثرت بالاتجاهات الخارجية إلا أنها تمتاز بطابعها المحلي وأهم ما يميزها هو فكرة استخدامها لهدف اجتماعي.
على صعيد السينما السورية، وكما بينا، تعتبر تجربة المخرج عمر أميرالاي واحدة من التجارب الرائدة والمتميزة في مجال السينما التسجيلية مع أفلام مثل : (الحياة اليومية في قرية سورية، 1972)، (الدجاج، 1977)، (الحب الموءود، 1983)، وفيمله الأخير المتميز (طوفان في بلاد البعث، 2003). أما بعد العام 2011، فتعددت الأسباب التي أدت إلى أن يصبح الفيلم التسجيلي ضرورة، وعلى إثره ظهرت العديد من التجارب: (العودة إلى حمص، 2013، طلال ديركي)، (الرقيب الخالد، 2014، زياد كلثوم)، (مسكون، 2015، لواء يازجي)، (حب تحت الحصار، 2015، مطر اسماعيل)، (أرض المحشر، 2017، ميلاد أمين)، ( لسه عم تسجل، 2018، غياث أيوب وسعيد البطل)، (الآباء والأبناء، 2018، طلال ديركي). كما أسهمت عدة مؤسسات ثقافية في دعم السينما التسجيلية، أبرزها مؤسسة بدايات للإنتاج السمعي والبصري، وآفاق- الصندوق العربي لدعم الثقافة والفنون.
القواعد الأساسية للسينما التسجيلية:
الخصائص النوعية للفيلم التسجيلي:
يتأثر أسلوب الأفلام التسجيلية إلى حد كبير بالموضوعات التي تعالجها هذه الأفلام، وقد كتب جريرسون يقول: (إن فكرة الأفلام التسجيلية تتطلب منا أن نعرض على الشاشة المسائل التي تهمّ عصرنا بأسلوب يتجاوب مع خيال الناس ويجعلهم أكثر إحساساً وتفاعلاً مع ما يدور حولهم. وقد يتفاوت مدى تأثير الفيلم فلا يعدو في بعض الأفلام مجرّد عرض صحفي، في حين يصل في أحيان أخرى إلى مستوى الشعر والدراما. وفي بعض الأحيان، يكتسب الفيلم مستواه الجمالي الرفيع نتيجة للبساطة التي يعرض بها موضوعه على الناس)، وهكذا أخذت الملاحظات الاجتماعية تصبح أكثر فأكثر جزءاً جوهرياً من الأفلام.
لقد كان الاهتمام الرئيسي للحركة التسجيلية بوجه عام هو تعليم الجمهور وتنمية معرفته بطبيعة العالم الحديث وارتباطه بحياتهم كمواطنين. ففي المرحلة الأولى للحركة التسجيلية بذلت جهود كثيرة لإبراز الجانب الجمالي للأفلام التسجيلية، وفي المرحلة التالية اتسع حقل العمل في الأفلام التسجيلية وتركز الاهتمام في كمية الأفلام المنتجة ومدى انتشار توزيعها.
رأى جريرسون أن تراجع العنصر الجمالي لم يكن بسبب الاستغناء عن العنصر الجمالي في الأفلام التسجيلية، ولكن لأن ممارسة هذا الاتجاه الجمالي كان يتعرض لمقاومة، وقد أوصى جريرسون صانعي الأفلام بضرورة الجمع بين غايات الإصلاح العملي وخيالات الفنان المبدع، وأكّد أنّه لمن الغباء إنكار الناحية الجمالية للأفلام أو إغفالها.
يمكن تلخيص رؤية المنظر النقدي الأول للسينما التسجيليّة، جرين جريرسون للخصائص النوعيّة للفيلم التسجيليّ بالتالي:
1 – لا بدّ للأفلام التسجيليّة من أن تستمد مادتها من واقع المكان الذي يجري تصويرها فيه، وأن تبلغ حداً من المعرفة يساعدها على تنظيم هذه المادة بأسلوب فني.
2- لا بدّ للأفلام التسجيليّة أيضاً من التفرقة بين الوصف والدراما. ويجب التمييز بين الأسلوب الذي يقتصر على وصف القيم السطحية للموضوع، والأسلوب الذي يكشف بطريقة فعالة حقائق الموضوع.
3- ضرورة الخلق الفني في المعالجة السينمائية للأفلام التسجيلية: لا بدّ أن يغوص الفيلم خلف الأحداث والمظاهر ليقدم لنا خلقاً فنياً يمكن أن يبلغ مراحل الفن العليا. والخلق الفني بهذا المعنى لا يعني تصوير أشياء بعينها وإنما يقصد به إبراز المغزى الذي ينطوي خلف هذه الأشياء.
5- يجب أن يسعى صناع السينما التسجيلية على تنمية قوة الملاحظة في رؤيتهم، والإحساس النقدي، والعمل الحقيقي يبدأ حينما يتخذون أهدافاً لقوة ملاحظتهم وحسهم النقدي.
نقطة هامة أخيرة نذكرها عند الحديث عن السينما التسجيلية، وهي النقطة المتعلقة بعملية الإنتاج والتوزيع السينمائي. يرى جرين جريرسون أنه من الضروري الاهتمام بعملية الإنتاج والتوزيع الخاصة بالفيلم التسجيلي، لذلك يرى أنه من الضروري تشجيع المؤسسات الخاصة على الاهتمام بإنتاج هذا النوع من الأفلام، وعلى الرغم من أن جرين جريرسون عمل لسنوات في مؤسسة حكومية بريطانيّة لإنتاج السينما التسجيلية، إلا أنه يرى أن على المؤسسات الخاصة تقع مسؤولية تطوير الفيلم التسجيلي وترويجه، ذلك لأن الهيئات الخاصة بعيدة عن الرقابة الحكومية.
خاتمة:
كانت الغاية من هذا النص تأصيل مصطلح "السينما التسجيلية" في الكتابة النقدية السينمائية، وذلك بالتعريف بنشأة هذا المصطلح وتجليات هذا النوع السينمائي، والتعريف بأبرز التجارب التاريخية والخواص الفنية والسينمائية التي تميز هذا النوع السينمائي. أما على مستوى نماذج وعناوين الأفلام المطروحة، فالعديد منها تتداخل ما بين الوثائقي، الوثائقي الرصدي، والتسجيلي، فالحدود واهية بين هذه الأنواع الثلاثة رغم الخصائص الفنية والسينمائية المميزة لكل منهم.