سوق الأحد، طرابلس: بوهيميو المدينة الأُصلاء
14/02/2019
الكاتب: فراس المعصراني
تركِّز سردية الحرب الأهلية في لبنان، أينما ذُكرت في الإعلام أو الوثائقيات أو الكتب، على الصراع المسلم-المسيحي في بيروت وضواحيها. ويغضّ الطرف عن طرابلس التي تقع في شمال لبنان، وما نالته من قطعة الكيك الجحيمية هذه بين عامي 1975-1990، متمثِّلة بتحالف الحزب العربي الديمقراطي مع قوات النظام السوري ضدّ حركة التوحيد المتمركزة في باب التبانة، ووصول النزاع إلى ذروته في العام 1985 حيث سيطرت حركة التوحيد على طرابلس لكن كفّة الميزان مالت إلى المنحى الآخر في نهايات عام 1986. كما كان لطرابلس النصيب في النزاع اللبناني عام 2008 انتهاءً باشتباكات 2011-2012 الشهيرة بين جبل محسن وباب التبانة، التي كانت ترجمة لبنانية للنزاع السوري الحاصل آنذاك.
لا يحاول الفيلم الوثائقي التجريبي القصير "سوق الأحد: طرابلس" (2018) الممتد لسبع عشرة دقيقة للمخرج يحيى مراد بتاتاً التركيز على سردية الحرب وتأثيرها على مشهد سوق الأحد في الوقت الحالي. سوق الأحد الذي يرجع تاريخه إلى ما يقارب الأربعين عاماً مع تغيُّر أشكاله. كان سوقَ الجمعة قبل الحرب، وكان اختصاصه بيع قطع الأنتيك. أمّا الآن، فيوجد فيه كل ما يخطر في البال من ألبسة وطعام وأثاث وأدوات منزلية و"كراكيب" قد لا يراها البعض سوى نفايات. إلّا أنّ سوق الأحد يُعتبر بحسب ما يعبّر عنه بعض البائعين نتاجاً لهذه الحرب، فيكون أول سؤال يطرح الإنسان على نفسه بعد انتهاء الحرب هو: "حسناً، ماذا الآن؟". فالصراعات انتهت وطرق العيش ستختلف وتتبدل. وينتهي الأمر غالباً بالأشخاص العاديين -أمثال بائعي سوق الأحد- إلى أعمال يومية صغيرة لا تعطي أي احتمال للثراء بل فقط لقوت اليوم.
الأنتروبولوجيا كمدخل لهذا الوثائقي
قد لا يكون هذا الوثائقي بعمق وثائقيات جان روش الأنتروبولوجية، بتفاصيلها ودراستها المعمّقة والممنهجة، إلّا أن يحيى مراد دخلَ إلى هذا المكان وبدأ التحدُّث مع العديد من أفراده، ورسى في النهاية على أربع شخصيات رئيسة؛ هم أبو وليد ورجب ومحمود المعروف بالسيّور (الذي توفيّ قبل صدور الوثائقي بفترة قصيرة) وأبو جهاد، وبعض الشخصيات الثانوية، التي لها خلفيات وجنسيات مختلفة بين اللبناني والسوري والفلسطيني. ولم يكن هذا الاختيار متعمّداً أو حتى عفوياً، بل العلاقة التي تمَّ بناؤها بين المخرج والشخصيات الرئيسية خلال أوقات التسجيل التي امتدت إلى فترة السنتَين، فرضَت أن يكون هؤلاء الأربعة هم أبطال الوثائقي.لم يتلقَّ مراد ترحيباً وسلاسة في التعامل في بدايات دخوله إلى السوق حاملاً الكاميرا، وأثيرت الشكوك تدور حوله والأحكام المسبقة بما يخصّ احتمال انتمائه إلى جهة إعلامية معينة. وضعته هذه الشكوك في مكان يلجأ فيه كغريب إلى الأشخاص القلائل الذين أظهروا حسن نية تجاه "تطفّله" هذا. وإن قرأنا قصص الأنتروبولوجيين، فتقريباً، هذا ما يحدث معهم بداية في انتظار كسب ودّ ما تبقى من المجتمع المدروس، أو على الأقل إلى حين يصبحون مألوفين فيه، فتتوسع حرية تحرُّكاتهم.
هذا ما يجعل الوثائقي، علم مخرجه أم لم يعلم، ضرباً من ضروب الأنتروبولوجيا غير الأكاديمية، بالملاحظات التي ينقلها لنا عن طريق الصور أو الكلمات، وبتسلسل بناء العلاقة الذي مرّ به مع هذا المجتمع. وكما في أي دراسة أنتروبولوجية لمجتمع ما، فإن هذا الفيلم الوثائقي يأتي إلينا بمعلومات وأخبار كنا نجهلها بتاتاً عن كيفية عيش الأشخاص وطقوسهم وعاداتهم وفلسفتهم للأشياء.
قد لا يكون مجتمع سوق الأحد بهذا التعقيد، لأن أفرداه لم ينفصلوا تماماً عن الأماكن والبيئات التي أتوا منها، بل هم مجرّد أفراد ابتعدوا عن مجتمعاتهم لأسباب مختلفة من حرب وظلم وعدم الانتماء وفقر وبحث عن الذات. لكنّ الأخبار المجهولة التي يطالعنا بها هذا الوثائقي التجريبي هي إجابة عن سؤال ربما لم نطرحه على أنفسنا كأشخاص، أغلبنا كان ولو لمرة واحدة من رواد هذه الثقافة الشعبية الأسبوعية (Flea market) الموجودة في أي مكان: "إلى ماذا تتحول هذه المساحة بقية أيام الأسبوع؟".
ربما نتخيّلها مساحة فارغة ذات عواميد فكّ عنها هذه الصفيح والخيمات المؤقتة. وهذه الإجابة تنطبق طبعاً على شريحة كبيرة من هذه الأسواق، لكنها لا تنطبق على مساحة سوق الأحد في طرابلس الذي ينشط نسبياً يوم السبت، ويوم الأحد يكون الازدحام قد وصل إلى ذروته بين متسكّعين لتمضية أوقات الفراغ، وباحثين عن أشياء معيّنة، وفقراء يجرّبون نيل ما يحتاجون بأقل سعر ممكن.
هذه المساحة تتحوّل بعد عودة الزبائن لمنازلهم إلى مساحة آمنة لأشخاص وعائلاتهم وحيواناتهم الأليفة. فالمشاهد ترينا صوراً لأسرّة نوم في بيوت من قماش وصفيح، وأسمنت أحياناً، يتناول فيها أصحابها الطعام والشاي والشواء والسهرات والدفء والنوم. لا يوجد مكان آخر لهم يذهبون إليه، والكيفية التي أودتهم إلى العيش في هذا المكان، بحسب ما يروون للمخرج، أنهم في البداية، عندما انتقل سوق الأحد إلى مكانه الحالي، اعتادوا أن يأتوا ليل يوم الجمعة ليناموا في السوق ويستيقظوا صباحاً كي لا يضيّعوا وقتاً ويخسروا زبائن. ومع الوقت، فهمَ بعضهم أنّهم قادرون على الاستفادة من هذه المساحة أكثر من عرض مبيعات. لذلك، استغلّوا الفراغ وعمّروا بيوتاً بدائية، كمهرب من الأماكن التي كانوا يسكنون فيها تحت ظلّ عائلاتهم والتي لا توفّر لهم هذه الراحة وحرية التصرّف، حتى تحوّل هذا المهرب إلى مكان دائم يمارسون العيش فيه. كما اخترعوا له أماناً خاصاً بهم من جهدهم، وعنواناً لهم يعودون إليه مهما ابتعدوا. ويظهر حبهم لهذا المكان، رغم قساوته وتخديمه السيّئ، كفعل امتنان.
بوهيميو المدينة
لا يصبُّ الوثائقي اهتمامه فقط على مشاهد سوق الأحد ونقل صور ممّا يعيشه الأشخاص الثابتون هناك، لأن تجربة المخرج وأوقاته في السوق على المدى الطويل جعلاه يخصِّص حصة كبيرة من الفيلم لاستكشاف شخصيات معظم من يعيش أو يعمل هناك. وذلك بعدما استطاع خلق نوع من الثقة والصداقة معهم، وبعد أن أدرك أن الإنسان في تلك المساحة لم يكتفِ بأن يقبل الفوضى التي يلبسها سوق الأحد كمعطف ويقدّم نفسه بها، متمثلة بالازدحام والمكبّ الذي يجاوره أو حتى نهر أبو علي الراكد والمتخوم بالنفايات. فهذا الإنسان وجد نفسه في بيئة عليه التكيُّف معها، إمّا للعمل فيها ونيل قوته منها أو العيش في رحاها، إلى درجة أن الكثير منهم قد طوّر هذا التكيُّف وحوّله إلى فلسفة تعبِّر عنه وتعطيه الراحة تجاه هذا المكان الذي أمسى ينتمي إليه، وأصبح اليوتوبيا التي طالما سعى خلفها دون أن يعرف وجهها، حتى عرفه حين حطّ هنا.
فالحرية المطلقة وجدها في هذا المكان، لا سلطة توجد إلّا سلطة الذات، ما يجعل المكان نوعاً من السمو لا الانحطاط، واكتشاف أن قوة الإنسان في الحياة تتمثل في أكثر من مكانة اجتماعية أو مال أو عائلة يعود إليها في نهاية اليوم، طالما أن الكرامة والأخلاق ما زالت موجودة ولا أحد يتعرّض للضرر. إنّ حالة الزهد الواضحة في نمط حياتهم والشِّعر الذي يلقونه، وقصص الحبّ القديمة، والموسيقى، والحيوانات الأليفة التي أصبحت تؤنسهم في منفاهم هذا وعدم القلق حيال الغد وموارده غير المنتظمة، كلّ هذه تجعل منهم بوهيميي هذه المدينة دون تعمّد، ودون سعي وراء هذا اللقب، ودون الوقوع في هاوية اليأس. بل على العكس، هم يطمرونها من خلال المرح والنكتة وعدم الإكثار من الكلام مع الزبون.
الأشخاص الذين يحكون حكاياتهم في هذا الوثائقي لا يقولون هذه الأمور بشكلها المباشر، إلا أننا نستطيع أن نستشفّ هذه المفاهيم من الأمور التي يتحدثون عنها والأسلوب الذي يستخدمونه عندما يحكون عن أنفسهم والسوق. طبعاً هذا لا يجعلهم من المتفائلين تجاه الوضع، بل عندهم أطروحة نقدية كبيرة تجاه السياسة والوضع الاقتصادي والمجتمع وأفراده الذين تحوّلوا إلى ديكتاتوريات صغيرة ومخلوقات متعَبة ومتعِبة في الآن نفسه. فأحد الشخصيات الرئيسة يستخدم الكثير من الشِّعر ليجرّب اختزال ما يفكّر به ويشعره تجاه زهد العيش والمرح والسخط على الحكّام والألم الذي ذاقه خلال سنوات حياته، وقناعته أن لا جدوى من العمل لخير هذه البلاد والأجيال التالية التي قد تكون أسوأ من جيله.
يقدِّم الوثائقي صورة واضحة لهذا المجتمع الذي لا يعرفه أحد، ومن الصعب الانضمام إليه أو الاحتكاك معه، لأنه يكون نائماً في نور سماء السبت والأحد، أما في ظلمة السبت والأحد وبقية الأيام يخرج من مخبئه وينشط بعيداً عن أي غريب. وربما يكون هذا الوثائقي هو المصدر الوحيد للتعرُّف إلى مجتمع سوق الأحد حتى الآن، بسبب اكتشافه له وتوثيقه والغوص فيه وفي حياة أفراده وقصصهم وهمومهم وآرائهم وإلفتهم.
كما أن التوثيق لا ينتهي هنا في هذا الفيلم، فعندما كان المخرج يصوّر في السوق، التقطَ بورتريهات للشخصيات والأماكن هناك وطبعها وأعطاهم إيّاها، ليعرّفهم على ماذا يعمل، وخزّن الكثير من الفيديوهات التي توثّق يومياتهم وتفاعلاتهم بتفاصيلها ما جعله يشعر أن هذا الأرشيف المستمرّ لمدة عامين لا يمكن اختزاله في وثائقي قصير، فقرّر إقامة معرض يتضمن مختارات من هذه البورتريهات والفيديوهات التي تظهر نظرة أوسع عن المكان وأشخاصه. يحمل هذا الوثائقي بشكلٍ غير مباشر دعوة للآخر، خارج هذا المجتمع، إلى إعادة النظر في مفهومه عن هذا السوق، وأخذه على محمل أكثر عمقاً، لأن سوق الأحد في طرابلس الآن، لم يعد سوقاً بل مساحة آمنة لمجموعة كبيرة من الناس.
لا يستند هذا الفيلم إلى مراجع أو معلومات تساعده على توسيع أفقه، سوى المكان وقاطنيه الذين حفّزوا صانع الوثائقي على تصويرهم كشخصيات ومراجع لصناعة فيلمه، ومشاهدتنا لفيلم "سوق الأحد: طرابلس" بما يحمله من مشاهد وسِيَر تجعلنا في موقع المستغرِب والمعجب والمحترِم لتجربة هؤلاء الأفراد الطيبين، ما يجعل هذا الوثائقي تجربة فريدة تستحق المشاهدة.
يمكنكم مشاهدة ترايلر الفيلم هنا.