اللاجئون "السوريون": آخر الجماعات الحديثة في عالم يعيش في ماضيه السحيق
05/04/2017
الكاتب: جون ريتش
ست سنوات من الموت المعلن، لم تستقر هوية الضحية على تجانس تام ولم ينجح القتلة في صناعة هوية بلا خدوش. نجح الشعب السوري، مرغما على الأرجح، في تعطيل سعي القتلة إلى جريمة بلا عقاب. واقع الأمر أن معظم ما حصل في سورية حتى اليوم لم يغير واقعة أساسية. ثمة مئات الآلاف من السوريين الذين بقيوا هدفا للقتلة من كل الجهات. ليس مجديا أن نذكر حوادث محددة من تاريخ هذه المقتلة. كل متابع لما يجري في هذا البلد، لديه ثبت بضحايا كثر يفوق عددهم وسيرهم قدرة أي منشور على جمعه بين طياته. ذكر الواقعة ليس مجديا أو منتجا. لأن الإمعان في ذكر الوقائع لن يجعل أحدا، على مدى اتساع الكوكب، يقرر بعد اطلاعه على الوقائع الانحياز إلى جانب الضحية. هذا إذا كان ثمة كثر في هذا العالم ما زالوا يحسنون تمييز الضحية من القاتل، حتى بين الضحايا أنفسهم.
مسألة تمييز الضحية عن القاتل، ومحاولة تبيان ملامحها بوضوح ليست بالأمر السهل كما يعتقد البعض. بكلام آخر، لا يكفي أن يموت المرء ميتة مؤلمة على يد قتلة موصوفين ليكون ضحية. ذلك أن الضحية قبل أن تصبح ضحية لها تاريخ شخصي وتملك هوية. وامتلاكها لهذه الهوية هو ما يحدد مصيرها. أسارع إلى الدفاع عن مقتربي بالقول إن الضحية في مثل هذه المذابح يمكنها أن تكون القاتل نفسه، أو مجموعة القتلة. وإن ما يعانيه السوريون من أصغر طفل إلى أكبر شيخ، الذين ماتوا منهم والذين جرحوا والذين ما زالوا أحياء يسعون يملك سوية مرتفعة من الألم تجاوز حد ألم الموت. ذلك أن السوري الحي، اللاجئ أو النازح، أو القابع في ما تبقى من منزله، بات حائرا في تعريف جنسه، فكيف في تعريف هويته. من وظائف التضامن أنه يمرننا على تنظيف النفس من شوائبها العابرة. مشاركة المتألم ألمه تجعلنا أفضل مما كنا عليه من قبل. هكذا نتدرب على صقل إنسانيتنا بمشاركة المتألم ألمه. والحق أن الألم السوري صارخ وعنيف، لكن الآخر، والآخر هو غير السوري، لا يشارك السوري ألمه رغم فظاعة الألم وحدة الصراخ. كما لو أننا نصر على إخراج السوريين من دائرة البشر الذين يمكنهم لو توافرت لهم الظروف المناسبة أن يعودوا إلى مزاملتنا في الإنسانية، ونضعهم في مصاف المصابين بالجذام الذين إما يحشرون في وديان الموت التي لا مخرج منها، (سجون الأسد نموذجا)، وإما يطوفون البحار في سفينة المجذومين من دون أن يجدوا ميناء لرسو سفينتهم.
في سلسلة دراسات حول حرب البوسنة حملت عنوان ( الإبادة الجماعية: عن مسؤولية غير المتورطين – Genocide: A Case for the responsibility of the bystander) يلاحظ أرنيه يوهان فيتليسن (Arne Johan Vetlesen) أن ما تهتم له الجماعات (communities) في حروبها، ليس عدد القتلى من الجماعة المعادية بل إن ما تهتم له فعلا وتحرص على نموه هو عدد القتلة من الجماعة نفسها. ويخلص إلى ما مفاده أن الجماعة في حروبها ترى في غير المتورطين أو المحايدين من أبناء الجماعة نفسها العدو الأول، لأنها تعتقد، اعتقادا جمعيا، أن انضمامهم إلى فريق القتلة من شأنه أن يبيد الجماعة المعادية. وعليه فإن انخراط كل الجماعة في قتال الآخر هو الهدف الأول لدى الجماعات المتحاربة، والخاسر في هذه الحروب هو الذي يفشل في دفع الجميع لأن يصبحوا قتلة.
واقع الأمر أن الجماعات في أصل تكونها واكتسابها صلابتها لا تكف عن الإعلان بوضوح عن عزمها على إبادة العدو، المتمثل بالجماعات الأخرى. ذلك أن مولد الجماعات مشروط بموت المجتمع، على ما يقول جوك يونغ (Jock Young)، وفي هذا المجال يؤكد ريتشارد سينيت أن المجتمع بطبيعته هو مرحب بالتنوع والتعدد، على النقيض من الجماعة التي "تستخدم ضمير الجماعة نحن، كفعل من أفعال حماية الذات". (R. Senett: The Myth of purified community; The Uses of Disorder). بهذا المعنى، لا يمكن فهم ما يجري في سورية من مجازر تحمل بصمة الرغبة بالإبادة الجماعية، إضافة إلى عمليات التغيير الديموغرافي الممنهجة إلا بوصفها عملا من أعمال الجماعات ولا يمت بأي صلة من أي نوع إلى المجتمع أو يمكن صدوره عن دولة حديثة. بل إن إعادة قراءة سريعة لما لاحظه رينيه جيرار في كتابه (العنف والمقدس – La Violence et le Sacre) توضح أن الدول الحديثة نفسها تصاب بأمراض الجماعات وتتحول شعوبها إلى قتلة بالجملة. لأن المجتمع يملك بنية هشة تحتاج إلى صيانة يومية، بعكس الجماعات التي تملك بنى راسخة ولا تتورع عن استئصال شوائبها بالقوة العارية.
يرى جيرار أن طقوس الأضحية التي تقوم بها الجماعات هي في الأساس فعل من أفعال العنف تقوم به الجماعة من دون أن تتعرض لخطر الانتقام. ذلك، ودائما بحسب جيرار، أن العنف ضد الآخر الخارجي "الضعيف" هو ما يمنح "النحن" الأمان الاجتماعي. في الدول الحديثة استبدلت الأضحية بالجنود الذين يسلبون حقوقهم كمواطنين من حق الدولة عليهم المحافظة على حياتهم، في مقابل امتيازات مادية ومعنوية، وهم بهذا المعنى لا يكفون عن إبداء استعدادهم للتضحية بأنفسهم في سبيل حماية المجتمع "المتنوع". لكن هذا الالتباس القائم بين الجيوش النظامية في الدول الحديثة وميليشيات الجماعات المنبثقة من بطون التاريخ، لا يلغي سهولة تحول الدول الحديثة على نحو بالغ السرعة إلى جماعة تدعي حيازتها هوية صلبة لا يمكن كسرها. يلاحظ فتلسين في دراساته الآنفة الذكر أن الصرب في يوغوسلافيا السابقة كانوا يريدون التخلص من أقلية ألبانية عنيدة "ومغايرة"، لكن أوروبا المستقرة استقرارا قلقا لم تكن تريد أن يتحول الألبان إلى لاجئين في أراضيها ما يصيب استقرارها الهش والقلق بأضرار فادحة. هكذا تم إخضاع الصرب قتلا وتدميرا لإقناعهم بالعدول عن تهجير الأقلية الألبانية إلى أوروبا. وعليه فإن الجريمة المرتكبة في يوغوسلافيا السابقة كانت، على ما يلاحظ فتلسين، مزدوجة. هناك جريمة أكثرية صربية بحق أقلية ألبانية، وهناك جريمة أكثرية أوروبية بحق أقلية صربية.
في تلك الحقبة برزت أصوات ذات دلالة كانت بمثابة اعتراض "أخلاقي" على التدخل في "حروب الآخرين". ودعوة واضحة إلى ترك الآخرين يقتتلون حتى إفناء بعضهم أو انتصار بعضهم انتصارا حاسما على بعضهم الآخر. يكتب إدوار ن. لوتواك (Edward N. Luttwak) ما ترجمته: "إن الحروب ليست سيئة بالجملة، لأنها تؤدي إلى السلام. لكن السلام لن يأتي إلا عندما تُستنزف قوى المحاربين، أو ينتصر أحدهم انتصارا حاسما. وقد تكون محاولة وقف الحرب في منتصفها أسوأ قرار يمكن لدولة خارجية أن تتخذه. في هذه الحال، لا تُنهى الصراعات، بل يتم تجميدها لفترة من الزمن، ويستغل المحاربون زمن التجميد لإعادة ترميم قواهم. لهذه الأسباب، من أجلك ومن أجلهم، لا تتدخل "في حروب الآخرين". (E. N. Luttwak: Give the War a Chance; Foreign affairs, July-August, 1999).
والحال، نحن أمام حرب جماعات في سورية تتداخل فيها العوامل المذكورة كلها، فهي حرب حتى إفناء الآخر، وهي حرب يرغب الآخرون في تركها مشتعلة حتى تنتهي باستسلام طرف أو خسارة الأطراف جميعا، وهي حرب تحصل خارج حدود الدول التي تحولت إلى جماعات على نحو واضح، وباتت لا تكف عن إعلان رغبتها في طرد الغريب عن أبوابها، وهي حرب تتدخل فيها الدول الخارجية خوفا من تصدير اللاجئين إلى أكنافها. وفي خلال هذه الأوصاف كلها يظهر اللاجئون السوريون بوصفهم الضحية الحقيقية لتحول المجتمعات إلى جماعات متناحرة، ولتحول الدول الحديثة إلى جماعات قومية ذات هويات صلبة أو تعتقد أنها صلبة ومتماسكة.
حروب الجماعات تتخذ طابعا شبه موحد على الدوام يعتزم إبادة الآخر المختلف، لكن هذه الإبادة من شأنها أن تلحق ضررا كبيرا بالجماعة المبيدة نفسها. فالعدو الميت ميتة لا رجعة فيها لا يعود بإمكانه أن يوحد الجماعة التي تعاديه، لأنه لم يعد يشكل مصدرا للخوف بوصفه ميتا. لهذا تلجأ الجماعة إلى إنكار موت عدوها وإعطائه حيوات متعددة ودفعه دفعا لأن يستعيد أنفاسه ورغبته بالقتال. وإذا تعذر عليها ذلك، فإنها أي الجماعة تحاول أن تخترع عدوا آخر على ما درج الإسكندر المقدوني على اتباعه في محاولته توحيد الجماعة باختراع عدو جديد كلما نجح في هزيمة عدو. وحيث أن وحدة الجماعة وتماسكها هي المطلوبة والمرغوبة، فإنها تلجأ إلى اعتبار العدو الميت قابلا للانبعاث من الموت، هكذا لجأت الجماعات منذ فجر التاريخ إلى بقر بطون النساء لقتل أي أمل في انبعاث العدو أطفالا من أرحامهن، وعلى نحو مماثل لم يتورع الجنود السوفيات والأميركيين في اغتصاب مئات آلاف النساء في برلين وحدها، بهدف زرع بذرة الجماعة في أحشاء نساء الجماعة الأخرى، حتى لا تقوم للعدو الميت قائمة ولا يعود للانبعاث من موته. ورغم هذه الأفعال كلها إلا أن الجماعة لا تكف عن ادعاء أن العدو لم يمت، من خلال ارتكاب مجازر بحق المدنيين العزل، لتقول لأبنائها أن العدو ما زال خطرا وكثيرا بدليل أن المجزرة الأخيرة أدت إلى موت عدد كبير من الجماعة الأخرى، وهذا يعني أن كل الحرب التي سبقت لم تقلل من أعداد الأعداء على نحو يمنعهم من تشكيل خطر مستقبلي.
ما سلف ذكره يوضح معنى ما يجري في الحرب السورية في وجه من الوجوه، ولا يختصرها كلها. لكن كل ما سلف ذكره تحقق في الحرب السورية على نطاق واسع جغرافيا وممتد زمنيا على نحو لا يمكن نكرانه. ورغم هذا كله فإن تكالب الجماعات على امتداد الكوكب على السوريين لم يهزم فيهم إرادة ما يمكننا بثقة أن ندعوه تمسكا بالعيش في العصر الراهن، لا في العصور الوسطى. السوريون هاجروا من بلدهم بمئات الآلاف، ركبوا سفن المجذومين وأملوا أن يصلوا إلى بر العصر الحالي، هربا من تراجع الجغرافيا السورية إلى عصور سحيقة. واللاجئ بطبيعته هو طالب للعيش مع المختلف والآخر، وليس رافضا له. بمعنى أنه ليس غازيا ولا محتلا، ولا يحاول طرد الجماعة المقيمة من أرضها ليقيم محلها. اللاجئ هو طالب التنوع والتعدد بامتياز، وإقفال الأبواب عليه، من قبل دول تدعي عراقة في الديموقراطية والحداثة يعني ارتداد هذه الدول إلى وضعية الجماعات الأهلية، ولا يؤدي أبدا إلى حمايتها من الأخطار.
لقد أثبت السوريون رفضا عميقا وشاملا لمحاولات ردهم إلى عصور سحيقة، فهاجروا بمئات الآلاف لأنهم لا يريدون أن يكونوا في عداد القتلة. لكن العالم "المتحضر" "الحديث" "العلماني" يرفض أن يستقبل اللاجئين الذين باستقبالهم فقط يستطيع تثبيت "حداثته" و"علمانيته" و"تحضره" ويحميها من خطر الانزلاق إلى حروب جماعات عمياء لن تبقي على الأرض ما يمكن أن يقيم أودها.