13/03/2017
الكاتب: زينة حلبي
المصوّر: آزادة أخلاقي
تشير الفنانة الإيرانية آزادة أخلاقي في مقابلة معها إلى أن هاجس توثيق الموت بدأ يؤرقها غداة انتفاضة الإنتخابات الإيرانية عام ٢٠٠٩، تحديداً بعد انتشار فيديو ندا آغا-سلطان التي أرداها رصاص الشرطة الإيرانية فيما كانت تشارك في التظاهرات. في تلك المرحلة الدقيقة من الانتفاضة الإيرانية وثّقت عشرات الكاميرات لحظة مقتل الشابة التي تحولت مادةً بصريةً شاهدها الملايين من الإيرانيين. نتج عن التوثيق البصري للحظة الظلم القصوى حالةُ غضب، فحداد جماعي سكن ذاكرة الإيرانيين الذين عاشوا معاً حدادهم على لحظة تاريخية كانت مليئة بآمالٍ أُحبطت لاحقاً.
الصورة كشاهدِ قبر
دعا التوثيق البصري للحظة مقتل ندا سلطان الفنانة آزادة أخلاقي إلى طرح عددٍ من الأسئلة حول دور الأرشيف البصري في الذاكرة الجماعية وتداعيات غيابه. فتسأل الفنانة كيف يمكننا الحداد على شخصياتٍ تاريخية لم تلتقط الكاميرات لحظة موتها، كما حصل مع ندا سلطان، ولم توثقها للذاكرة، فلا يستقر موتها في الذاكرة الجماعية ولا يُعرف لها حداد. كيف نحد إذا على هذه الشخصيات إنْ لم نختبر موتها ونعاينه؟ ولعل السؤال الأصعب هنا، هل بإمكاننا، وبعد مرور الزمن، وضع هوية بصرية للحظات تاريخية نحسبها محورية حتى يتسنّى لنا الحداد عليها ورصد آثارها علينا اليوم؟
تجيب آزاده على هذه الأسئلة في معرض صورٍ عنوانه By an Eye-Witness (أي، "حسب شاهد عيان") تمسرح فيه وفاة سبع عشرة شخصية من الناشطين والأدباء والمثقفين الإيرانيين الذين ماتوا في ظروف قاسية أو لحظات دقيقة من التاريخ الإيراني الحديث، بدءأً من الثورة الدستورية، مروراً بالإنقلاب على مصدق، فالثورة الإسلامية، وليس انتهاءً بالحرب العراقية-الإيرانية. فمن هذه الشخصيات من مات اعداماً أو اغتيالاً كالمفكر الشيوعي تقي اراني (١٩٤٠) والمثقف اليساري بيجان جازاني (١٩٧٥) والناشطة مرضية احمدي سكوي (١٩٧٤) والكاتب ميرزاده عشقي (١٩٢٤) ، ومنهم من رحل إثر حوادث عبثية كالشاعرة فروغ فرخزاد (١٩٦٧)، بينما قضى المرض على شخصيات محورية أخرى كالملا محمود طالقاني (١٩٧٩) والمخرج سهراب شهید ثالث (١٩٩٨) وغيرهما ممن شكل غيابهم نقطة تحول في الذاكرة الجماعية الإيرانية. في غياب أرشيف بصري لظروف وفاة تلك الشخصيات أو تغييبه، تغوص آزاده اخلاقی في الأرشيف السمعي والمكتوب.
قضت الفنانة ثلاث سنوات تبحث في الكتب والجرائد والمنشورات وأرشيف الراديو عن الظروف المحيطة بموت تلك الشخصيات الإيرانية، واستعانت بشهود عيان قد يتذكرون تفاصيل صغيرة لكن مهمة، كحالة الطقس يومذاك أو عدد الناس الذين تحلقوا حول الجثة وما إلى ذلك من معلومات قد تساعد في إعادة تركيب المشهد. كان على الفنانة أن تصِّمم وتُخرج وتصوّر سبع عشرة صورة في ثلاثة اسابيع من دون إمكانية اللجوء إلى ممثلين محترفين لأنها كانت قد أنفقت ميزانية المشروع على خبراء تجميل ومصممي ملابس ومنتجين ومخرجين من أجل اعادة تشكيل تلك اللحظة بأكثر واقعية ممكنة.
لكن أخلاقي تعترف انّ الدقة التاريخية، وإن كانت أحد أهدافها فإنها في الواقع مستحيلة. لهذا السبب حاولت التقاط "روحية اللحظة"، أي قسوة المشهد وتراجيديته. وإصراراً منها على أن تلك الصور وبالرغم من طابعها الواقعي، ليست حقيقية، تظهر الفنانة نفسها في كلٍ تلك الصور مرتدية حجابها الأحمر الكاشف، تسترق النظر إلى جثة أو تحضن طفلة أو تجري نحو موقعة القتل، ، لتشهد بأم العين على لحظة الغياب التي لا تزال جرحاً مفتوحاً رغم مرور الزمن. فيبدو حضور الفنانة في تلك الصور كإعادة تأكيد على الرأسمال الرمزي لتلك الشخصيات، أي ميراثها من التقدير والمكانة التي تريده أن يستقرّ في الذاكرة الجماعية الإيرانية.
في ٤ فبراير/ شباط ١٩٤٠، قتل المثقف الشيوعي تقي أراني في سجنه. كان أراني قد أسّس المجلة الماركسية "دنيا" واعتقل مع عدد من زملائه الذين عرفوا بـ"مجموعة الثلاثة والخمسين" والذين أسسوا عند خروجهم من السجن حزب توده الشيوعي. لم تستطع والدة أراني التعرف عليه في المشرحة بسبب تغّير ملامح وجهه تحت التعذيب. (الصورة لآزادة أخلاقي)
في ١٣ فبراير/ شباط ١٩٦٧، قتلت فروغ فرخزاد، الشاعرة التي يمثل شعرها معالم الأدب الإيراني الحديث. وقعت فرخزاد ضحية حادث سيارة بعدما حاولت تجنب الاصطدام بسيارة تقل طلاباً. (الصورة لآزادة أخلاقي)
في سبتمبر/ أيلول ١٩٧٩، توفي آية الله محمود طالقاني في منزله بعيد الثورة الإسلامية. يعتبر طالقاني من أعلام الثورة بعدما كان قد قضى سنيناً في سجون النظام البهلوي. تجمع العديد من الإيرانيين يومذاك للتعزية بوفاته (الصورة لآزادة أخلاقي)
في يونيو/ حزيران ١٩٧٧ توفي عالم الإجتماع الإسلامي اليساري علي شريعتي في لندن في ظروف يلفها الغموض بعد ثلاثة أسابيع فقط على إطلاق سراحه من سجنه الانفرادي (الصورة لآزادة أخلاقي)
يرتكز مشروع آزادة أخلاقي، اذاً، إلى عملية تقصٍّ وتوثيق وسرد واخراج وتمثيل وتصوير لحظات خارجة عن السرديات التاريخية المكرسة، فشكل المعرض بالنسبة إليها "نوعاً من المقبرة المتخيلة حيث تقوم كل صورة بدور شاهد قبر شخصية لم يتوقف عند غيابها أي من الأنظمة الإيرانية المتعاقبة في القرن الماضي". فالصورة المركبة تحوي إذا العناصر الرمزية لإرث الجماعة السياسي. بهذا المعنى، وإذ تشهد الصورة المركبة على خسارات الجماعة، فإنها تقوم بحراسة الذاكرة عبر تفعيل عملية الحداد على الكارثة، ممارسةٌ من شأنها الحدّ من سطوة الميلانكوليا.
الميلانكوليا وأطيافها
يرتكز فهمنا للتاريخ الحديث إلى العلاقة التفاعلية بين الماضي والحاضر والمستقبل، والتي يحكمها تسلسل حتمي واضح للأزمنة الثلاثة. يشترط منطق التسلسل هذا، خصوصاً لدى الجماعات التي عرفت لحظات تراجيدية في ماضيها، يشترط على أن يقوم الحاضر على أطلال تاريخ مفعم بالخسارات التراجيدية فيبني عليها ليصل إلى مستقبل سوف يقوم حتماً على التحرر. يبدو هذا المنطق واضحاً في الأدبيات التي تلت الكوارث التاريخية الكبرى، في كتابات مثقفي الشتات الفلسطيني بعد النكبة أو في الأدب الجزائري بعد الثورة مثلا. بالرغم من فداحة الماضي، يشير تواؤم الأزمنة الثلاثة ومنطق تسلسلها إلى الانسيابية والطمأنينة.
ولكن ماذا يحصل عندما تقع كارثة تُخلّ بذاك التواؤم وتربك انسيابية الزمن هذه؟ في السياق الإيراني الذي تتطرق له أخلاقي، ماذا يحصل عندما لا يتبع الثورة الدستورية التي قضت على سلالة القاجار وأنبأت بنظام دستوري حديث سوى انقلاب دموي، ولا يتبع الانقلاب إلا عودة نظام ملكي أكثر بطشاً، فثورة أخرى، لا يتبعها إلا حرب طويلة مع العراق؟ ماذا يحصل حين لا تأتي لحظة التحرر المرجوة التي تأجل وصولها مراراً؟ بمعنى آخر، عندما تتكون صورتنا عن الماضي كزمنٍ يتكون من آمال لم تتحقق والمستقبل كزمن مرجو لن يأتي، كيف نختبر الحاضر وكيف نعاينه؟
في سياق بُتر فيه الانسياب الزمني الطبيعي، يظهر الحاضر كزمنٍ كارثي. الكارثة بهذا المعنى هي تجربة الفقدان الجماعية، كالثورة الناقصة والانقلاب الدموي والثورة الثانية المخيبة، التي لا تنبئ سوى بقدرتها على إعادة إنتاج الشروط عينها التي أدت إلى وقوعها، في حلقة زمنية مفرغة من الكوارث وتكرارها. ولعلّ هذا ما دفع الجيل الذي تنتمي إليه آزاده بالشعور بأنه مفصوم عن ماضيه، تائه في حاضرٍ حوّل المستقبل إلى مجهول ومصدر خوفٍ. فغرابة الماضي، أو عدم مواءمته الحاضر، أدت إلى تكوين ذوات وعيها للحاضر متشرذم، مشلول، كئيب. تعبر أخلاقي عن حالة الشلل الجماعية من خلال شخصها، هي التي تقف في كلٍ من الصور السبع عشرة، بحجابها الأحمر، تشاهد وتنفعل على ايقاع موت مباغت تغيرت أسبابه وظروفه ولكنه بقي معلقاً، ممنوعاً على الذاكرة وعصياً على الحداد. فالحاضر التي تقف فيه أخلاقي وتنظر منه إلى الماضي هو زمن معلّق، متوقف، يلي الثورات ولكنه لا ينبئ بها، يتبع الماضي ولا يصلنا بالمستقبل. يصوَّر هذا الماضي بأسلوب يواجه الميلانكوليا بوصفها الحداد الذي لم يكتمل باحداثيات الفقدان وتفاصيله.
الميلانكوليا، في تعريفها الفرويدي وتحولاته العديدة اللاحقة، هي الحالة الشعورية التي تنمّ عن فقدان لم يكتمل حداده تحديداً لأنه بقي جرحاً مفتوحا، أي جرحاً لم يكتمل الحزن عليه لأنه، ببساطة، لم يبدأ. فبدل أن ينصبّ الحداد على المفقود (وفي السياق الإيراني، في غياب قدرة الجماعة على الحداد على الشخصيات الرمزية التي اختارتها أخلاقي بسبب تعذر توثيق موتها)، يتحوّل الحداد إلى الذات الفاقدة. فيحتل ذاك الحزن الناقص كيانها ويرغمها المفقود الذي لم تستطع أن تحدّ عليه قط، على أن تدخله فيها وتمتزج به، أي أن تلتهمه من أجل أن تعيش من خلاله وتحييه من خلالها. ولكن في الحداد الميلانكولي يكبر المفقود داخل الذات ويقطع عنها الهواء. تحكم عملية الالتهام المتقطعة تلك على الذات بشعور النقصان الدائم، كأن الشيء الذي يقبع داخلها لا يتوانى عن شلّ حركتها وأي إمكانية لتمثّل المستقبل أمامها، فلا المفقود يحيا ولا الذات تعيش.
ولكن الكارثة هنا، بوصفها الحاضر الذي يقوم على خسارات الماضي وتعطيل المستقبل، تفرض على أخلاقي أن تنظر إلى الغياب فكرياً وان تتصوره بصرياً وأرشيفياً. فيشير الأرشيف الجديد التي تضعه أخلاقي إلى حالة الفصام التي تعيشها الجماعة الإيرانية اليوم جراء تجربتها المعلقة مع الحداد. يكمن القول السياسي لدى أخلاقي أساساً في تشخيص حالة الفقدان الجماعية الميلانكولية كما تراها في الجماعة الإيرانية التي لم يتسنّ لها الحداد على خساراتها المتتالية. ولكنها، وبفعل إعادة تكوين أرشيف الكارثة الذي لم يكن، فإنها تدعو الجماعة الفاقدة عينها إلى إخراج المفقود من داخلها، والتعرف إليه كجثة منفصلة عنها، أمامها، جثة يتوجب دفنها حتى تتم عملية الحداد ويسهل تصور المستقبل. بهذا المعنى، فإن الصورة تُظهر شكل الشلل الشعوري أولاً لتدعو من خلاله إلى بدء الحداد من أجل الولوج إلى الممكن، أي إلى المستقبل، كزمن كان قد عُلق مجيئه بفعل الكارثة.
الأرشيف وحدوده
يقدم مشروع آزادة أخلاقي حول إعادة تركيب الأرشيف الغائب مفهوما عن الحداد ومقاربة للميلانكوليا. ترى الفنانة أن غياب التوثيق البصري لموت تلك الشخصيات التاريخية، أدى إلى قيام الجماعة بحداد ناقص ناجم عن عدم قدرتها على معاينة جثة المفقود، فتاهت الجماعة في زمن معلّق لا ينبئ بمستقبل. وعبر قيام أخلاقي بتركيب الأرشيف الذي لم يكن، فإنها تمدّ الذاكرة الجمعية بعناصر الحداد اللازمة للخروج من حالة الشلل الميلانكولي. يطرح هذا التصور مقاربة جذابة لعلاقة الأرشيف بالذاكرة الجمعية ولكنه يقترح علينا أيضاً سؤالاً يتعلّق باختيارات شخصيات أخلاقي. فإذا كانت آزادي قد استخدمت مقتل ندا سلطان كمنطلق لمشروعها، فإنّ صورها تتجنب تقديم أي شخصية معارضة للجمهورية الإسلامية، لا بل لا نجد بينها أي شخصية تتحدّى السردية المهيمنة للوطنية الإيرانية المعاصرة. فتغيب مثلاً أي صورة للأقليات المهمّشة والشخصيات المعارضة من شيوعيين وأكراد خرجوا عن النظام وروايته الرسمية. فهل نغادر الميلانكوليا هنا نحو المستقبل الذي سعت اليه ندا سلطان أم نحو المستقبل الذي تضعه الرواية الرسمية؟
إذا حرّكنا الكاميرا من إيران إلى العالم العربي، وجدنا أنّ أي مشروع مماثل سيصطدم بمعضلات أشدّ صعوبة نتيجة وجود فئات كبيرة تعرّضت للتهميش على يد الرواية القومية، ونتيجة التاريخ الطويل للمعتقلات والاغتيالات وأساليب التعذيب. لكنّ التحدّي الأكبر يبقى في ما يخصّ العلاقة بين الصورة وإمكانية الخروج من الميلانكوليا. فإذا كان غياب الدليل البصري ينذر بالميلانكوليا، فهل يعني ذلك أن توافر الصورة كفيل وحده بالحؤول دون وقوع الجماعة في حالة الشلل عينها؟ فإذا نظرنا إلى العقد الأخير، لن نجد نقصاً في المادة البصرية للثورات العربية والقمع الذي رافقها. يمكننا حتى القول إن الصورة والفيديو حاضران بوفرة وإن لكثير من اللحظات التراجيدية هوية بصرية واضحة من مشاهد اغتيال مثقفين إلى لحظات غرق أطفال أو احتراقهم أو سحل متظاهرات أو قتلهن أو أَسرهن.
في كل هذه الحالات، توافرت الصورة لكن غاب الإجماع عنها. ففي كل هذه الصور، وان كنا شهدنا بأم العين تمثُّل الكارثة أمامنا، لا تزال السردية المصاحبة للصورة معرضة للتشكيك أو للمحو أو للتحوير. فالميلانكوليا هنا لا يولدها غياب الأرشيف، بل حضوره الصادم والمناقض للسردية الرسمية المواكبة له، تلك السردية التي تقول لنا، نحن الذين نرى الكارثة بأم العين، إن ما نراه لم يحصل.
من خلال هذه الأسئلة نعود إلى صور آزادة أخلاقي. هل يشفي حضور الأرشيف حالة الحزن المعلقة أو أن حضور سردية جامعة حول تلك الشخصيات الوطنية هو شرط عدم وقوع الجماعة في النسيان القاتل؟ ربّما كانت هذه النقطة الأخيرة هي التي حكمت اختيار شخصيات آزادة الذين لم ينجوا من الموت، لكنّهم نجوا من تمثيل الرواية الرسمية بجثثهم.