تصوير اللاجئين 2: خريطة لتدبير الإبحار في الخارج
16/06/2016
الكاتب: روجيه عوطة
في عرض البحر، يركب الهاربون قواربهم، التي تمخر، وتتقدم فوق الماء وأمواجه. خلال مغامرة اليم هذه، يشقون خارجهم، الذي كلما راحوا فيه، يتسع، وكلما تخطوه، ينبسط. هنا، يقعون في انفرادهم بأنفسهم، وإنطلاقاً من ذلك، يمارسون بدء وجودهم في أرض سيالة، بعيدة الأجل، حيث يكونون على خلوتهم. فالبحر يوفر لهم عزلةً، هي شرط وجودهم فيه، مثلما أنها شرط قدرتهم عليه، أي التحرك المتوازن فوق سطحه، فلا يمكنهم أن يبارحوها، لأن ذلك يؤدي إلى هبوطهم في عمقه، ولا يمكنهم أن يبقوا داخلها، لأنها تشتد مع اتساع فضائه أكثر. من داخل هذه العزلة، يحملون كاميراتهم، ويصورون بها رحلتهم في الخارج، محاولين تدبيره، ومحولين إختلائهم فيه إلى حضور عبره. بهذه الأفعال، وبإحداث غير مباشر وحر ومتكرر، يتغلبون على الأبد، والموت، ويصنعون حياتهم بدون الإتكاء على تمثيل عدمي لها.
نبش من قعر
ينوجد الهاربون عبر عزلتهم في البحر، الذي، وفي إثرها، يستحيل أرضاً شاسعة، لا يمكن للعين أن تتحملها، لا سيما لما يكون صاحبها، وعلى الدوام، مهدداً بالغرق المرجح طوال الماء. فالبحر، في هذه الحالة، يكاد يتحول إلى مدى مقفل على أبديته، التي تنبئ بالموت هبوطاً في جوفها، أي بالقتل ابتلاعاً. إلا أن الهاربين ما أن يصوروه حتى يسعون إلى تحويله من كل مغلق إلى آخر مفتوح، بحيث أنهم يرغبون في صيانة خارجهم هذا من أي تأبيد له يحيلهم إلى النظام الذي فروا منه، والذي كانوا، في ظله، غير موجودين قبل وبعد إفنائهم. فهم الآن موجودون، ولذا، يحافظون على حالهم هذه من خلال بناء علاقة مع البحر عبر الكاميرا، التي من الممكن القول أن أول مآل من مآلاتها هو تعيينها معالم البحر وجعله ممدوداً في مساحة من الممكن إلتقاطها.
في محصلة هذا الأثر الكاميراتي، لا يعود البحر موصداً على قصائه السحيق، بل يضحى مشرعاً على مجاورته الرحبة، فالعدسة تصممه بدون أن تلغي فساحته، بل هي على العكس تثبت مداه، الذي يحتاجه الهاربون، لأنه محمل وجودهم وطريقهم إلى حياتهم.
في هذا الفيديو، تبقى أصوات راكبي الماء وعباراتهم غير جلية، لكن، ثمة جملة من جملهم، تصل إلى الأذن، وهي:"من هون ما بتعرف اتجاه البحر من وين". فعلياً، المشهد الذي سجلته الكاميرا، متموج بفعل هيجان البحر، غير أن ذلك لا ينفي ثبات العدسة، التي ترتفع وتهبط بحسب اضطراب المركب، إذ أنها تستقر عليه، كأنها تأخذ مكانه، أي أنها تصبح قارباً له وللهاربين أيضاً. فوحدها العدسة وطيدة في توازنها مع حركة الأمواج في صعودها وفي نزولها. لكن هذه العدسة، ومع تواصل فورة البحر، تحول صورتها من قارب راسخ إلى قارب متنقل، فتدنو من البحر، تصوره عن كثب، كأنها تبغي التمكن من هذا الفضاء، ثم تطل، من بعده، على الهاربين، الذي يفترشون المركب. تالياً، تنتقل العدسة من بحر إلى آخر، مروراً بالهاربين الذين يركبوهما. لكن البحرين مختلفان، فالأول، تبيّنه كوضع مضطرب، السقوط فيه قد يكون وشيكاً، ولهذا السبب تقترب منه لكي تستخلص الثاني، الذي تظهره هادئاً، لا جزع فيه أو وجل! فتمسك به، قبل أن تطمئن الهاربين عبر تصويرهم، إلى أنه لا يزال أفقهم. العدسة تخرج بحراً من بحرٍ، تفلت مداه من انحدار أمواجه ومن علوها، مستنبطةً أفقه من عمقه المتزعزع، لكي تجعله، ومن جديد، مجالاً للحركة.
ترد تلك العدسة على جملة "من هون ما بتعرف اتجاه البحر من وين"، مؤكدةً على أن البحر، وبفعل تصويرها له، يتجه إلى مداه، إلى خارج قاعه، محاولةً انتشاله وترتيبه، لكي يبقى أفقاً للهرب. غير أن إنتاجها له على هذا النحو، يتضح أكثر في فيديو ثانٍ، حيث الكاميرا تصور مشهداً، يظهر الهاربون فيه موزعون على طرفي قاربهم، وبينهم، ينكشف البحر، فهي لا تقفله على وسعه، بل تفتحه انطلاقاً من الحركة فيه واجتيازه. وعلى هذا المنوال، تقسم الكاميرا البحر إلى بحرين، الأول، أمامها، ينجلي بين أجساد الهاربين، الذين ارتدوا سترات النجاة، والثاني، خلفها، لا ينجلي، بل يظل مجهولاً. إذاً، البحر لم يعد أرضاً أبديةً في تمددها ومغلقة عليه، بل صار بحرين متصلين، كل واحد منهما يقع، وبحسب الكاميرا، في مقابل الثاني: في الأمام، ثمة بحر مرئي، اجتيازه ينهيه، وفي الوراء، ثمة بحر لامرئي، اجتيازه مقبل، لكنه يظل لانهائياً. ولما يمضي الهاربون من بحر إلى آخر، يتقدمون من النهائي إلى اللانهائي، من البائن إلى المتواري، من الظاهر في داخل الصورة إلى الحاضر خارجها. فالكاميرا هي بوابة عبورهم، ليس من خارج مشهدها إلى داخله، بل العكس تماماً، أي من داخل مشهدها إلى خارجه، الذي يتيح حركتهم، أي التخطي.
شاطئ الحول
لا تخلص الكاميرا البحر من كونه أرضاً أبدية فقط، بل أنها، وبالفعل ذاته، تقسمه إلى إثنين، الأول، يتناهى لما يظهر أمامها، أي خلف الهاربين، والثاني، لا يتناهى لأنه يقع خلفها، أي أمام الهاربين. وهؤلاء لا يتوجهون، وفقاً لحركتهم، سوى من البحر المرئي إلى الآخر اللامرئي، كما لو أن الغرق، الذي يهددهم دائماً، لا يقع في رجاء المجهول اللانهائي، بل في رجاء المعروف النهائي. أي أنه يقع خلفهم وليس أمامهم. فالغرق يجيء من ناحية البحر الذي انتهى اجتيازه، وليس من ناحية البحر الذي لا يزال اجتيازه مقبلاً. بعبارة أخرى، ثمة موتان، الأول، وهو الغرق، يعيق الحركة، يهب على القارب، وقد يشقلبه، ولكن الكاميرا تتصدى له، وتتركه في خلف الهاربين، أي أمامها. والآخر، هو الذي تبقيه الكاميرا خارجها، ولامرئياً، وتضعه في ورائها، أي أمام الهاربين، الذين لما يتجهون صوبه، يقدرون عليه، وكلما تقدموا منه، يبدو كأنه يدبر أكثر عنهم. وهكذا، يصنعون حيواتهم.
يأتي الموت، بوصفه تعطلاً للحركة أو إغراقاً للهاربين، من البحر المتناهي المرئي، من داخل الصورة، ولما يحدث، يقع على حدوده مع البحر اللامتناهي واللامرئي، الذي ينوجد في خارج الصورة. يحيل الموت، هنا، إلى دولة التمويت، إلى "داعش"، التي لا تعتقد بأن الهاربين موجودين إلا في لحظة قتلها لهم. على أن هؤلاء، وبعد ركوبهم البحر، ومن خلال الكاميرا، يتصدون له، بحيث أن عدستهم تضعه في أمامها المجتاز، ولا تجعله يتخطاها إلى خلفها، بالتالي، يظل الموت في ورائهم وليس في أمامهم.
لكن، وفي الكثير من الأوقات، يقع ذلك الموت في الحدود بين البحرين، كما في هذا الفيديو، الذي يشير الهاربون فيه إلى أن البحرية الألمانية عطلت قاربهم، وجعلتهم واقفين في عرض الماء. في هذا المشهد، لا تتمسك الكاميرا بتقسيمها البحر إلى إثنين، الأول نهائي، والآخر لانهائي، لكنها، تلتقطه دائرياً (اطلعوا علبحر، اطلعوا). وبهذه الطريقة، تزيل الكاميرا الحدود بين البحرين، فتضلل الموت، وبالفعل إياه، تصير البحر، الذي تصوره حولها. فمع وقوع الموت، لا تستخرج الكاميرا بحراً من بحرٍ، لكنها، تغير البحر من خارجها إلى حولها إلى عالم الهاربين. وهؤلاء لا يتشبثون بقارب يغرق، بل لحظة يضربه الموت، يقفزون منه إلى البحر، إلى حولهم، كما لو أنه شاطئهم، الذي حين يقفون عليه، يسبحون فيه. فالسباحة نقيضها الغرق، وليس الوقوف على البر.
وقد يقع الموت بدون أن يكسر القارب، بل يعطله فقط، وبالتالي، تصيّر الكاميرا البحر حولاً، أي عالم للهاربين. لكن في تلك اللحظة بالذات، قد يكشف صاحب الكاميرا عن وجهه، كما ظهر في هذا الفيديو. فقليلة هي المشاهد، التي يكشف فيها الهارب-المصور عن وجهه، بل يظل مضمراً، لكن عندما تنزل الكارثة، قد يعمد إلى التنقل بعدسته من البحر إلى وجهه، والعكس أيضاً. وهذا، على صلة بموقعه كحامل للكاميرا، بحيث أنه، في الفيديوهات التي لا موت فيها، يقف على الحدود بين البحر النهائي والبحر اللانهائي، أي في مرمى الموت، الذي يحدث عادةً في مكانه. تالياً، لما يصور البحر، ثم ينتقل إلى تصوير وجهه، وذلك، في إثر وقوع الموت، يبدو كأنه يوفر للهاربين حولهم، عالمهم، مثلما يؤمن لنفسه حولاً وعالماً. الوجه، في هذا المطاف، هو بحر الهارب-المصور، وهو حوله أيضاً، إذ يقفز إليه، كشاطئ، وربما، يسبح فيه أيضاً.
حضور الى آخر
إذاً، كيف يرتب الهاربون، علاقتهم مع البحر من خلال الكاميرا؟ وكيف يصونونه كخارج لهم، كأفق لحركتهم؟ خلاصة القول السابق تشير إلى انتقالهم من حالة إلى أخرى. بدايةً، ينتشلون البحر من عمقه، ثم، يقسموه إلى إثنين، واحد نهائي، يقع خلفهم، وثاني، لا نهائي، يقع أمامهم، ويمضون إليه. وحين ينزل الموت بين البحرين، بين طرفي الثنائية التي صنعوها، نهائيلانهائي، مرئيلامرئي، يعمدون إلى تخطيها، جاعلين من البحر حولهم وعالمهم، الذي يقفزون إليه، ويسبحون فيه. لكن، وبعد ذلك، ماذا يفعلون؟
يجيب هذا الفيديو على هذا الاستفهام، حيث الكاميرا تصور البحر، الذي يظهر أمام الهاربين، وفي الوقت عينه، تجعل البحر الموجود خلفهم غير موجود، وحتى لو التقطته العدسة، ونسمع حاملها يقول:"إذا عملنا هيك بالعكس ما بعود ببين شي". من هنا، يمكن القول أن المشهد يحيل إلى موقع جديد للهاربين، فأمامهم، هناك بحر لانهائي، كون اجتيازهم له لا يزال مقبلاً، وخلفهم، لا وجود لبحر نهائي، بل لشيء آخر، وهو عزلتهم. لقد أضحت عزلتهم مكان البحر النهائي وصارت متنهاية، وانتقلوا منها إلى حضورهم، بالتالي، أصبحوا حاضرين.
بعد ذلك، من الضروري سرد قصتهم مرة أخرى. إذ أن البحر، بوصفه فضاءاً شاسعاً، وفر لهم عزلة هي شرط وجودهم، ومنها، مضوا في مغامرتهم. وكانوا يصنعون على طول فعلهم هذا، وعبر الكاميرا، علاقةً مع البحر، على أساس نبشه من غور تأبيده، وعلى أساس تثنيته. ولما يقع الموت على الحدود بين طرفي ثنائيته، وهو دائماً يقع على تلك الحدود، يغيروه إلى حول وعالم، وإذا لم يقع الموت، ، يتخطون تلك الثنائية بالإجتياز وليس بالقفز، وتالياً يتحول البحر إلى أمامهم. أما ورائهم، فلا وجود لشيء سوى عزلتهم، التي ما عادوا يسكنوها، ولذلك تظهر لهم منتهية.
في إثر حضورهم، وكما في الفيديو المذكور سابقاً، يستفهم أحد الهاربين من المصور ان كان يسجل فيديو أو يلتقط صورة، فيرد عليه قائلاً:"فيديو، منتفرج عليه نحن". أي أنهم هم المصورون وهم المتفرجون، يتصورون الآن، ليشاهدون ذواتهم لاحقاً، كما لو أنها لا تعود إليهم، وكما لو أنهم، بمشاهدتها، سيتأكدون من كونهم بارحوها. فقد صنعوا لأنفسهم صورة، لم يعمدوا إلى تأديتها، بل أن إنتاجها، عبر الكاميرا، يعني تمثيلها لهم، وفي الوقت عينه، تمثيلهم لها، وذلك حتى استنزافها والإنصراف منها. كل صورة مصنوعة من أجل مبارحتها، وكل صورة لا تقوم بدوامها بل بإتاحتها الخروج منها. أمنت العدسة تمثيلاً حياً وفعالاً لهم. تمثيلا لم يوقف حركتهم ولم يقتلها، بل حافظ عليها عبر إعانتهم على بناء علاقتهم مع خارجهم المائي، وعلى اجتيازه بالتوازي مع تخطي عزلتهم فيه. مثلما أن هذا التمثيل ساعدهم في تكرار تقدمهم، بثبات وتوازن، على محمل اللانهائي، مخرجاً إياهم من العزلة إلى الحضور، بحيث أنهم تحولوا من موجودين على أساس العزلة إلى حاضرين عبرها، ولما انتهت، بدأوا يصيرون غيرهم. فتلك الـ"نحن"، التي نطق بها الهارب على مسمع رفاقه، هي "نحن" قادمة، "سنتفرج"، هي "نحن" الآخرون، الذين لا بد من تشييدها بالإستناد إلى الحضور.
"سيلفي" منسكبة
إذاً، السوريون الآن حاضرون، ولا يتوقفوا عن إثبات حضورهم هذا، وبالتوازي مع ذلك، يبدأون بالإنتهاء من البحر والدنو من اليابسة. طبعاً، إثبات الحضور لا يعني إقفاله، كما أن الإنتهاء من البحر لا يعني إلغاء المدى الذي يتيحه، فاللاجئون يتحركون من المجتاز إلى اللامجتاز، ومن النهائي إلى اللانهائي. وعلى هذا النحو، من الممكن ملاحظة أمر بعينه في تسجيلات إقترابهم من الشاطئ، بحيث أن حامل الكاميرا، كما في هذا الفيديو، يدير عدسته نحو البحر المجتاز، ثم يقربها من اليابسة، تالياً، يضع الأخيرة في مقابل النهائي، أي أنها تحل مكان اللانهائي، إذ أنها، في هذا السياق، أرضاً من أراضيه. اليابسة ليست خاتمة اللانهائي، نقطة وصوله إلى آخره، بل أنها مجال من مجالاته، بحيث أن الحركة لا تنتهي عنده، بل أن الهاربين يواصلونها. فاليابسة ليست هنا نقيض البحر، بل أنها أفق لانهائيته، التي أمنها للهاربين. أي هي بحرهم الآخر.
في هذا الفيديو، يخبر حامل الكاميرا بأنه، ورفاقه، وصلوا إلى اليونان. لكنه، وبدل أن يصور اليابسة، التي بلغوها، يصور البحر. وفي إثر ذلك، يحل البحر مكان اليابسة، كأن رحلتهم أوصلتهم إليه! بعبارة أخرى، هم أبحروا في اليابسة ليبلغوا البحر. العدسة تحوّل وبطريقة كلية، اليابسة إلى بحر والبحر إلى يابسة، وعليه، تجمع بينهما انطلاقاً من خوضهما على أساس الإجتياز (الذي لما ينتهي يقبل)، وعلى أساس اشتراكهما في كونهما أرضاً سيالة.
تؤكد الكاميرا أن جغرافية الهاربين مائية، منسكبة ، وهم لما يقعون فيها، يحضرون على منوالها. وبعبارة أخرى، يمارسون حضورهم فيها على سبيل تعديه بعد أن يثبتوه. فبين مشاهد اقترابهم من الشاطئ، ووقوفهم على الشاطئ إياه، ثمة ممارسة محددة، وهي تصوير الوجه، بحيث أن الهارب-المصور، وبعد أن ينبئ بالوصول، يصور وجهه، كما أنه، وبعد أن يبلغ اليابسة، قد يقدم على الفعل نفسه، قائلاً:"وهادا البحر". فغالباً، ما يصور الهاربون وجوههم على الشاطئ، أي أنهم ينتجون الـ"سيلفي"، التي تظهر البحر ورائهم:"سيلفي والبحر خلفي".
لا بد من التوقف عند طريقة التصوير هذه، طريقة الـ"سيلفي"، التي لا تبغي إظهار الوجه فحسب، بل البحر معه أيضاً. فعبر هذه الطريقة، يثبت الهاربون حضورهم بوجوههم المعلقة على المدى المائي، كأنه هو الذي يؤلفها. بعبارة أخرى، يصور الهاربون وجوههم، بوصفها علامة حضورهم، من خلال تعليقها على البحر، وبهذا الفعل، يؤكدون على حضورهم من خلال الاجتياز، كما لو أنهم يقولون:"ها نحن حاضرون، وجوهنا هي خلاصة البحر الذي اجتزناه، وصار خلفنا". لكن، ونتيجة أن اليابسة هي بحر آخر، لن يبقوا في وجوههم، بل سيتخطوها. لن يعلقوا في حضورهم، بل أنهم يصوروا وجوههم كي يتعدوها. على هذا النحو، يمكن القول أن الوجه هو شاطئ بين بحرين، بين المجتاز وغير المجتاز، بين النهائي واللانهائي. تعديل في صيغة التصوير: "وجهي واجتيازه أمامي، شاطئي والبحر أمامي".
المستهل
الحضور بالوجه هو شكل من أشكال ترسيخ الحضور، وشكل من أشكال الإبحار، مثلما أنه لحظة من لحظات التقدم نحو اللانهائي. لكن، على الشاطئ، وحيث تجتمع كاميرات اللاجئين لإلتقاط الـ"سيلفيات"، تحتشد أيضاً كاميرات الإعلام، التي تسرع نحو الهاربين، ساعيةً إلى إلتقاطهم من خلال إنتاج صورهم على أساس تمثيل مميت لحضورهم. ماذا تفعل كاميرات الإعلام؟
تلتقطهم في البحر، كأنهم بلا قدرة عليه، وذلك من خلال التقاط قاربهم في مشهد مائي واسع. وفي بعض تقاريرها، تلتقتهم من فوق، كأنها تراقبهم. ايجاز مغامرتهم، إقدامهم على الحياة بغاية واحدة، وهي الوصول، وعندما يصلون، تعجل الخطى نحو استنطاقهم بإستفهامات باطلة من نوع "كيف كانت رحلتكم؟"، مختزلةً تلك الرحلة بالخطر، وبالتالي، مجمدةً اللاجئين في غرقهم ونجاتهم وفي معاناتهم، أو معيدةً إياهم إلى خريطتها من باب أنها تنقصهم من نوع "هل تعلمون أين أنتم الآن؟". تركز الكاميرا على وجوههم كأنها، بذلك، تحتجزهم في وجه واحد، سمته الأساس أنه حزين وخائف. وكل ذلك، يندرج في سياق استبدالها خارجهم بعالمها، واستبدال الوسط، الذي يقعون ويتحركون فيه، بمجموعة الظروف التي تترك آثارها على كل واحد منهم، كما يندرج في سياق إزالة اللانهائي، الذي يتطلعون إليه.
لكن، ومهما أسرع الإعلام نحو اللاجئين يظل بطيئاً، بحيث أنه يقف مكانه، ويحاول استدخالهم إلى الصورة التي صنعها لهم، وهي صورة، لا ينوجدوا بحسبه، سوى عبرها، عبر تأديتهم لها.
عندما يتلقط النظام الدولي اللاجئين، يظّهر ذاته، ويستند إلى صورتها كي يحتجزهم فيها. فعندما يبينهم ضعفاء وكئيبين ولا حول ولا قوة لهم، يصف ذاته، ولما يعلن أنهم بلا خارج، ولا عالم ممكن لهم سوى داخله، يتحدث عن وضعه. إذ أنه يريدهم مثله كي يدرك كيفية التعامل معهم. يريدهم على صورته عن نفسه، فهو، وهذا أقصى ما يقدر على فعله، يتوهم علاقة مع نفسه عبرهم، وكلما ارتطم بها، وعلم بأنها معدومة، يعدمهم. أما اللاجئون، فحين يصورون أنفسهم، لكي يصونون حركتهم، ويصنعون عالمهم، ومن أجل أن يجتازوا عزلتهم إلى حضورهم، وبناء ذواتهم على أساس تمثيلها لهم، وليس العكس. لكن الأهم من كل ذلك، أنهم لا ينتجون صورهم بغاية البقاء فيها، بحيث أنها دائماً تحملهم إلى خارجها، لأنها مصنوعة لترتيب حركتهم في ذلك الخارج، وجعله وسطهم، الذي عندما يواجهون الموت فيه، يقدرون عليه، وبهذا، يصنعون حياتهم المقبلة.
لا يمكن تصوير اللاجئين بمعزل عن تصويراتهم، فذلك قد يؤدي إلى استبدال اجتيازهم داخل الصورة إلى خارجها، باحتجازهم في داخلها ومحو خارجها على حد سواء. فمن الضروري أن يقوم تصويرهم بمشاركتهم في إنتاج حركتهم، وتنسيقها، وفتح سُبل مقاومتهم لمنظومات الضبط والالتقاط، لكي تصنعهم على أساس ذواتها، المؤبدة، أو التمويتية، أو التي تحاكي الحياة بغاية إعدامها.
لا يحتاج السوريون إلى صورٍ، استفهامها الأول والأخير هو "كيف تعكس معاناتهم"، الذي في إثره، يُعتقلون في يأسهم، وبالتالي، يصيرون موضوع سلطة بالتوازي مع كونهم موضوع شفقة. مثلما لا يحتاج السوريون إلى صورٍ تنتهك وجودهم وحضورهم وتنهيهما، بل يحتاجون إلى صور تؤلف مستهلهما، وتعينهم على معاودتهما، حتى يستنزفوها، فيصيروا غير ملتقطين وغير مصورين في آنٍ معاً.