سياسة الصورة: صورة المُقاتلين الأكراد في سوريا والهواجس الثقافية
04/01/2016
الكاتب: رستم محمود
لم يكن الصراع العنيف الذي دار منذ أواسط العام ٢٠١٢ بين التنظيمات الإسلامية المُتطرفة وميليشيات وحدات حماية الشعب "الكُردية" YPG الرديفة لحزب الاتحاد الديموقراطي الكُردي، للسيطرة على مدينة "رأس العين"، مرورا بذروة التصارع أثناء معركة "كوباني" الشهيرة بين داعش والميليشيات الكُردية، لم يكن هذا الصراع عسكريا فحسب، بل كان في حيز واسع منه "صراعا رمزيا"، يتعلق بسعي كُل طرفٍ لشرعنة عُنفه ومعركته لدى جمهورين مختلفين وعلى طرفي نقيض.
وعلى الرغم من تباين اساليب الحشد والتعبئه والشرعنه لدى الطرفين على المستوى الرمزي لهذه المعركة، فإنهما مع ذلك يشتركان في سعيهم الحثيث لاستخدام الصورة بأكثف قدر مُمكن،وفي إدراكهما بأن الطبقات الاجتماعية والمجموعات السياسية المُستهدفة، مُنشغلة وخاضعة بشكل شِبه مُطلق لسُلطة الصورة، إن عبر وسائل الإعلام المرئية، أو من خلال وسائل التواصل الاجتماعي. وما زاد من فاعلية هذا الضخ والتحشيد من خلال الصور، هو انتماء الطرفين وولاءهما القطعي لأيدولوجيتين متباينتين.
***
لم تتوان الآلة الدعائية لداعش في إستخدام كُل طاقتها لإظاهر وتصوير أكبر قدر من العُنف الأرعن، حتى بحق أكثر الضحايا استسلاما لسُلطتها، متفننة باستحداث أفظع أنماط التعنيف الوحشي بحق هؤلاء، عبر الذبح والإحراق والإغراق...الخ. كما أنها عملت بإتقان على إخراج ذلك التعنيف عبر نمط من الصور الواعية لمراميها الخطابية، وللجهات والطبقات التي يسنهدفها التنظيم و"أمثاله"، والتي يمكن تقسيمها الى حيزين مُنفصلين:
فمن جهة هناك الفئات الأكثر تعرضا للتحطيم والتعنيف وبالتالي الأكثر استبطانا للمظلوميات المُركبة في المجتمعات "المُسلمة السُنية"، لتعويضها بشكل رمزي مُتخيل، وبالتالي السعي لجذب وترغيب هؤلاء المُحطمين. ومن جهةٍ أُخرى هناك الرغبة في زرع الزعر والخوف لدى فئات واسعة من المناوئين المُفترضين، سواء كانوا من المحاربين المواجهين لقوات داعش، أو من المجتمعات الخاضعة لداعش، أو من المجتمعات التي تعتبرها داعش مُعادية لها بالمطلق، سواء المحلية منها أو الغربية.
***
في مقابل هذه الدعاية الداعشية وعلى الطرف النقيض منها، فأن الصورة التي صدرتها الآلة الدعائية الرديفة للميليشيات الكُردية، كانت تعتمد إظهار ثلاثة مضامين مكثفة من خلال الرسالة الإعلامية التي تُصدرها:
1- إظهار النساء بشكل كثيف في هذه الصورة. فتيات بكامل أناقتهن، بثياب كُردية مُزركشة، وهيئات جسدية غير مُحافظة. تظهرن كمُقاتلات ومُديرات وسياسيات وسيدات مُجتمع، تختلطن بالرجال ولهن حضور واضح في المجال العام.ضمن مضمون الإعلامي يتقصد القول أن طبيعة الحياة في الضفة الأُخرى من المعركة متباينة تماما عن حياة الإسلاميين "الدواعش"، المحافظين، الذكوريين والمُتجهمين.
2- إظهار "البهجة العامة"، مهرجانات ثقافية ومؤسسات خدماتية واقتصادية، حفلات جماعية وكليبات موسيقية راقصة، أناس عاديون بهيئات مُتخلفة، أسواق ومشاة وشوارع ملونة، وحركة اجتماعية تسير برتابة اعتيادية.
3- إظهار الانضباط الموجه، من خلال المؤسسات البيروقراطية وبالذات عبر الأجهزة الأمنية التي تؤدي مهمتها بإتقان، ومحاولة إظهارها وكأنها تسعى إلى حفظ الحياة العامة، والإيحاء بتمتع الناس الخاضعين لسيطرة هذه الميليشيات المسلحة بالأمن والأمان بإعتباره بات في نظر الكثيرين الخدمة الأغلى ثمنا في الواقع السوري. ففي صور المقاتلين ثمة زيّ عام موحد ومُنضبط، وثمة تراتُبية هرمية و"قانون عام"، و كأن المطلوب الإيحاء بوجد عقد اجتماعي/سياسي ومؤسسات وقوانين بين المنضوين تحت سُلطة هذه المليشيات، أي نمطٌ من أنماط الدولة، وإن بسُلطة ومساحة جُغرافية مُصغرة.
إن التمعن في أهداف هذه المضامين المُصدرة عبر هذا النمط من الصور، يقودنا الى عدة أهداف مُتكاملة :
أولا: جذب طبقة الشُباب الأكراد، وتحديدا الذين تتراوح أعمارهم بين 15-35 سنة، لينخرطوا في الجُهد القِتالي للميليشيات الكُردية. فإظهار النساء يستهدف بشكل مباشر إثارة "الحمية" الذكورية المباشرة لدى هؤلاء الشُباب، بسلوك مطابق للآلية التقليدية في المجتمع الكُردية، حيث كانت النساء تُزغرد لحض الرجال على الانخراط في القِتال.
وإذا كانت صورة الشابة المُقاتلة هي الأكثر قُدرة على خلق ذلك الجذب/التحريض، فهناك بمحاذاة صور المقاتلات، الخطاب القومي المُستبطن في تلك الصور والذي لم يكن بأقل فاعلية، إن كان ذلك عبر الأعلام والأغاني والألوان وغيرها من الامور الدارجة في الذاكرة الجمعية الكُردية، أو عبر الإغراء بوجود كيان/ذات/مؤسساتية قومية كُردية، يجب الانخراط بها والدفاع عنها من قِبل شباب الكُرد، خصوصا وأنهم يعيشون ضمن أجواء حياتية ضاغطة، تُسهل من خضوعهم لسُلطة هذه الصورة/الخطاب المُصدر والمُحرض لهم.
يضاف إلى ذلك أن هذه الصورة المُصدرة من تيار سياسي/عسكري كُردي رديف لحزب العُمال الكُردستاني، بأيديولوجيته ونمط خطابه القومي اليساري غير التقليدي في تاريخ الحركة القومية الكُردية، تسعى في مكان ما لمواجهة الدعاية الكُردية المناهضة له في المجتمع الكُردي، والتي لها مساحة اجتماعية لا تقل حظا عن مساحة هذا الحزب في المُجتمع الكُردي السوري. فثمة سعي دائم من قِبل هذا الحزب للقول لعموم الأكراد السوريين "نحنُ نُمثل حالة كُردية جديدة، غير تقليدية، غير قائمة على التراتبية الاجتماعية العائلية العشائرية، ومشروعنا السياسي قائم على طموحات الأجيال الكُردية الأحدث عهدا، وليس كحال باقي الأحزاب الكُردية التقليدية". ويُلاحظ ذلك بجلاء في "الجدال العام" الكُردي-الكُردي في وسائل التواصل الاجتماعي، حيث تحتل الصورة مكانة "الوثيقة" والمرجع الأهم الذي تسعى مُختلف التيارات القومية الكُردية أن تُثبت رأيها من خلاله.
ثانيا: توصيل مُعطى سياسي للمجتمعات والنُخب السياسية والثقافية الغربية، يسعى للقول بأن المُقاتلين الأكراد مختلفون تماما عن نظرائهم الإسلاميين، ومختلفين نسبيا عن مُقاتلي النظام السوري. وبالتالي كسب شكل من أشكال الشرعية عبر الاعتراف بهم كطرف سياسي في المسألة السورية، واستخدام هذا العملية ضمن الصراع الأساسي لحزب العُمال الكُردستاني مع الدولة التُركية، من خلال الإيحاء بأن السُلطة الحاكمة في تُركيا هي إسلامية الهوى. وبناء على هذا الإعتراف وفي مرحلة مرحلة تالية، يجري السعي لتلقي الدعم العسكري والإعلامي والسياسي عبر تجاوز الهواجس الغربية الثقافية والأمنية لعواقب هذا التعاون، عبر آلية تُثبت انتماء المُقاتلين الأكراد للقيم "الحداثة" والمدنية والمؤسساتية الغربية، وبالتالي الانتماء لذات الضفة في الصراع الكُلي لهذه القوى الغربية مع التيارات الإسلامية المتطرفة في المنطقة.
طبعا لم تكن "سياسة الصورة" التي اتبعتها الآلة الدعائية الرديفة لوحدات حماية الشعب مُختصرة على إظهار العنصر النسائي مع بعض "ظواهر" الحداثة المجتمعية والسياسية المتوفرة في دفة المقاتلين الأكراد فحسب، بل سعت الى استخدام آلية إعلامية/سياسية كاملة في ذلك الإطار. من مثل أن يُستضاف الصحافيين والمصورين والفرق الإعلامية الغربية في مناطق سيطرة هذه القوات، ويؤخذون إلى جبهات القِتال أو إلى المؤسسات الخدماتية التابعة لسُلطة الإدارة الذاتية الكُردية، ويُعمل على الترويج لمجمل الخطاب الإعلامي/السياسي المُراد إيصاله عبر الصور التي تُتاح لهذه المجموعات أن تحصل عليها، من دون غيرها. فالمُراسلون الغربيون، في هذه الحالة سوف يعيدون إنتاج ذات المواد البصرية المتاحه، وان بشكل أكثر احترافية ولجمهور غربي أوسع، ولكن من أجل تُحقق ذات النتائج المرجوة إعلاميا.
يضاف إلى ذلك إرسال الموفدين السياسيين والعسكريين للزيارة والتفاوض مع مراكز القرار في عواصم القرار الأوربية، والعمل على الصورة التي يجب تصديرها من خلالهم. وقد كانت صورة وهيئة المقاتلة والقائدة العسكرية "نسرين عبد الله" التي قادت معركة مواجهة تنظيم داعش في مدينة كوباني الشهيرة، أثناء زيارتها لفرنسا ولقاءها الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند أكبر تكثيف لذلك المضمون الإعلامي/السياسي المراد إيصاله. فقد كانت المُقاتلة الكُردية بزيها العسكري وهيئتها الجسدية غير المُحافظة تقود الوفد في لقاء الرئيس الفرنسي، وكانت سمتها الرسمية أثناء اللقاء "مندوبة وحدات حماية المرأة YPJ" وإلى جانبها آسيا عبدُالله الرئيسة المُشتركة لحزب الاتحاد الديموقراطي "الكُردي" PYD بزيها الكُردي التقليدي المُزركش. ولم يكن حضور مندوب حزب الاتحاد الديموقراطي في فرنسا "الدكتور خالد عيسى" إلا هامشيا في اللقاء، بسمته مُترجما بين الطرفين.
يضاف الى كل ذلك، قضية الترويج والتركيز على مدى اندماج عشرات المقاتلين الأجانب الغربيين في صفوف المقاتلين الأكراد. فالصورة المُصدرة عن هؤلاء لم تكن لمُجرد إظهار مُشاركة هؤلاء المقاتلين الأجانب –أغلبيتهم المُطلقة أوربيون وأمريكان وكنديون- كمقاتلين في الجبهات، بل إظهارهم أيضا كأعضاء منخرطين ومُندمجين في الحياة العامة "الكُردية"، دون أية محاذير أو محافظة اجتماعية تجاههم. فنراهم يظهرون في الأغاني والدبكات والحوارات العامة، مع البسطاء وعلى موائد الطعام، مخالطين النساء ومتمسكين بكامل خصوصيتهم الاجتماعية والثقافية. وحينما كان يسقط أحد هؤلاء المُقاتلين قتيلا، فأن عملية اهتمام ضخمة كانت تجري لذلك الحدث، من أجل إظهار وحدة الحال والمصير بين المقاتلين الأكراد والغربيين. بمعنى إظهار "وحدة الدم" في مواجهة العدو المُشترك، المتمثل بالتيارات الاسلامية المتطرفة.
ثالثا: كانت صورة "المقاتلين" الأكراد تُخاطب الجماعات الأهلية التي تُقاسم الأكراد مناطق الشمال السوري ديموغرافيا، من مثل العرب والسريان والأرمن. حيث كانت "سياسة الصورة" في هذا المجال تستخدم عدة مضامين ثقافية/سياسية. فهي من جهة تعمل على إظهار الإيدلوجية القومية لحزب الاتحاد الديمقراطي الكُردي الرديف لحزب العُمال الكُردستاني بعيدا عن ردائها التقليدي، وذلك من خلال تصويرها وكأنها تُمثل التجسيد المباشر لخطاب "الأُمة الديمقراطي" الذي أطلقه زعيم حزب العُمال الكُردستاني عبد الله أوجلان منذ عدة سنوات. وأهم ما في هذه النزعة أنها تذهب إلى نفي وجود جماعة قومية مركزية في المنطقة، وتنادي بالتعايش بين مُختلف المكونات المجتمعية فيها عبر الإرادة الحُرة بالتعايش.
وفي هذا السياق كانت الصورة وخطابها مُطابقين تماما، فكل البوسترات والصور العامة كانت تُكتب بجميع لغات سُكان هذه المنطقة، كما أن المُنتمين للمؤسسات من الذين يظهرون في الحيز العام، وبالذات منه الثقافي، كان هناك حرص على إظهارهم وكأنهم ينتمون إلى كامل هذا الطيف الأهلي/المُجتمعي.
رابعا: كانت تلك الصورة متباينة تماما مع الصورة التقليدية/الموضوعية للمُجتمع الكُردي في سوريا، وبالذات منه أحوال النساء في المُجتمع الكردي السوري.
فصحيح أن نزعة المحافظة "الشكلية" التي انتشرت في المُجتمع السوري "السُني" بدأ من أحداث حماة واستمرت في التراكم حتى يومنا الراهن، لم تصب المُجتمع الكُردي بنفس الدرجة، لكن ذلك لا يعني أن المجتمع الكُردي السوري دخل حالة تحديث شاملة، بل هو بقي في مكان ما مُحافظا على البواعث والديناميكيات الاجتماعية التقليدية نسبيا. فارتفاع نسبة التعليم وزيادة وتيرة الانتقال للمُدن، لم تترافق مع زيادة في نسبة عمل المرأة ومساهمتها في النشاط الاقتصادي، ولم تترافق مع زيادة في مستوى الحريات العامة والاستقرار الاجتماعي.
بمعنى ما، بقيت النساء الكُرديات جزء طبيعيا من تكوين وحال عموم النساء السوريات، ولا تشكّل صورة المرأة الكُردية التي تروجها الآلة الإعلامية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي، سوى صورة مخادعة. وما ذلك إلا جزء من الصناعة الإيدلوجية التي يود ترويجها، وليست جزء موضوعيا من حقيقة الأحوال في المناطق الكُردية.
بمعنى آخر، فإن هذا التيار السياسي يروج ل"المرأة الكُردية الحديثة" بإظهارها كمُقاتلة ومشاركة للرجال في النشاط السياسي الرديف لهذا التيار السياسي، بينما يمنع كُل السُبل الاقتصادية والتعليمية والقانونية التي قد تحمي النساء وتدفعهم نحو آلية متينة للحداثة الاجتماعية والثقافية. هذه الحداثة التي يجب أن تكون حقا ممتلكا اجتماعيا وسياسيا، وليس هبة أو منة من أي تيار سياسي بعينه.
***
لا شك أن كُل تلك المضامين السياسية/الثقافية التي تحاول الصورة المروجة من قِبل الآلة الإعلامية التابعة للميليشيات الكُردية تصديرها، إنما تُريد من طرف آخر "إخفاء" الكثير من الوقائع والمجريات التي تُخالف وتباين تلك المضامين بشكل تام.
فهذه الصورة "المثالية" عن النساء في صفوف المقاتلين الأكراد لا تنفي حقيقة أن هؤلاء قد تم إغراءهم ليتركوا مؤسساتهم التعليمية، وأن الكثير منهن إنما التحقوا بالقوات الكُردية قبل بلوغهن السن القانونية التي تتيح لهم حرية اختيار نمط حياتهن. وطبعا تخفي تلك الصورة طبيعة الحياة المُحافظة والمليئة بالقيود الاجتماعية والحياتية والسلوكية التي تُفرض على هؤلاء النسوة. كما أن تسريب صور المؤسسات والحياة العامة "الملونة" تُخفي طبيعة سيطرة هذه القوات على كافة مناحي الحياة العامة في مناطق نفوذها، بما فيها جوانب الحياة الاجتماعية والسياسية والمدنية والاقتصادية والبيروقراطية وحتى الثقافية. كما أنها تعتم على سلوكياتها العنيفة تجاه المناوئين والخصوم السياسيين للميليشيات الكُردية والحزب السوري الرديف لحزب العمال الكُردستاني.