21/05/2015
الكاتب: ضحى حسن
تتصدر الحشود المشهد، سيل جارف من الأجساد النحيلة، وجوه متراصة بين خطين متوازيين من الأبنية المدمرة، أقرب الوجوه، وجه إمرأة مسنّة، ترتدي على رأسها شالاً أسوداً، لم أرى وجهاً مرهقاً تعباً جافاً كهذا من قبل. إنها صورة ملحميّة، من الممكن أن تكون لوحة فنية لرسام مشهور، لكنه في الحقيقة، مشهدٌ واحد فقط من واقع حصار أهالي مخيم اليرموك في دمشق.
كيف يمكن لـهكذا صورة أن تكون جميلة، جميلة إلى هذا الحد.
في الحياة اعتدنا أن نَصِف الألوان بأنها جميلة، عن السماء والأزهار، عن البحر والجبال، لكن كيف يمكن أن نقول عن صورة كهذه، بأنها صورة جميلة للغاية؟.
يُقال أن جمال الفن يكمن في التماثل القياسي بين الأجزاء، العناصر وتجانسها، لكن صور الحرب كسرت هذه القاعدة القديمة التقليدية، بل نسفتها كلياً. فهي لا تحمل أيّاً من تلك الصفات، بل العكس تماماً، إذ أن فوضويتها أساس جمالها. كما قيل أيضاً أن الصورة الجميلة، هي تلك التي تعكس واقعاً وتفاصيلاً تبعث على السرور والمتعة، إلا أن العديد من صور الحرب والمجاعات والحصار والدمار والكوارث الطبيعية، يظهر جمالها في بؤسها.
قمت بعرض صورة حصار مخيم اليرموك على مجموعة من الأشخاص لم يعيشوا تلك التجربة بشكل مباشر. هل يمكن أن نقول على صورة كهذه، بأنها صورة جميلة؟، "نعم، إنها صورة جميلة، إذ أنها تعكس حالة البؤس والألم، الحصار في اليرموك والدمار، أي أنها تنقل الواقع في بلدنا تماماً كما هو"، علقت ريما، .يبدو أن جمال الصورة (الفن) هنا يكمن في وحدة الصورة مع الواقع، والإنفعال الناتج عن تأثير تلك الصورة على المتلقي.
"الفنان لا يعمل سوى على النظم والتركيب لما هو قابل للنظم والتركيب" الفيلسوف الألماني هيدغر، لكن في الحقيقة، معظم من التقط تلك المواد البصرية في سوريا أناس حملوا العدسة فجأة، صوبوها باتجاه الهدف، ضغطوا على الزر المخصص في الكاميرا، ومن ثم ظهر الواقع، الفن، المتلقي الشاهد، الشاهد حامل الكاميرا.
انظر إلى تلك الصورة مجدداً، من الممكن أن تكون الصورة في سوريا، العراق، فلسطين، من الحرب العالمية الأولى، الثانية..، "ذكّرتني الصورة بأيام الحرب في ألمانيا، لمدينتي يلي تدمّرت" علق الشاب الألماني، وعلى هذا يمكننا القول أن سبب تأثير هذه الصورة على المتلقي الألماني، هو محاكاتها لخبرة ولتجربة شخصية عنده، يكمل "إنها بالفعل صورة ساحرة"...
خطّان متوازيان من الأبنية المدمرة، للمكان السابق ذاته (مخيم اليرموك)، خالٍ كلياً إلا من حجارة متناثرة هنا وهناك، "الصورة يلي قبل مؤثرة أكثر، يمكن لأن فيها بشر، هذه الصورة عادية"، قال يزن، أي أنّ الصورة الخالية من البشر للمكان ذاته لم تؤثر على المتلقي، وعلى ذلك سقطت منها الصفة الجمالية، وكذلك الفنية، كما لو أن خلوها من البشر جعل من الفوضى الفنية فيها أمراً لايمكن لإحساسنا الإفلات منه.
على مدى أربع سنوات شهد المتلقي تدفقاً بصرياً للأحداث في سوريا ( سوريا كمثال)، التدفق المتمثّل في الصور ومقاطع الفيديو إلى جانب الأفلام القصيرة الكثيرة التي تصوّر الواقع الدموي، أشلاء، جثث، مشاهد تعذيب، الخ…. تلك المواد البصرية التي تهافتت عليها وسائل الاعلام، المهرجانات الدولية والإقليمية، لتنتقل تلك الصور من دلائل مجردة من الخواص الفنية، إلى أعمال فنية تشارك في مسابقات ومهرجانات، منها من حاز على أفضل صورة فوتوغرافية، أفضل فيلم وثائقي... كما لو أن تلك المواد باتت المفتاح الذي يقلب العدمية، إرادة إثبات مفارقات الحياة وتناقضاتها من خلال تحويلها إلى ظاهرة فنية وجمالية.
"بالصور يلي فيها عالم ممكن شوف حالي بحدا منهم، بتأثر أكتر وبحسها بتخصني"، علّق لؤي، وكأنّ تأثر المتلقي بالمواد البصرية يرتكز بشكل أساسي على سلسلة من العمليات العقلية والنفسية تصب في تمكنه من تجسيد شخصه والظروف المحيطة به فيها، يعني تلك التي تلامس ذاته، مخاوفه، أحلامه، كوابيسه، واقعه، حياته.
لنعد إلى السؤال الأول، كيف يمكن لـهكذا صورة أن تكون جميلة؟ ربما لا يمكننا تصنيف الصورة تلك ضمن مفاهيم علم الجمال، أو تقييمها على أسس فلسفة الفن، إذ أن موضوعها قاسٍ وعنيف بل مأساوي، لذلك لنحاول تأطيرها من الناحية التقنية.
"تحمل الصورة الفوتوغرافية خمسة أبعاد، الطول والعرض والعمق، المكان وبالتالي المناخ، والبعد الخامس الزمن، وبالتالي الحركة. إنّ تقاطع الزمنين الرابع والخامس يشكّل الحدث ، لذلك إذا أردنا محاكمة الصورة كعمل فني، فسوف تسقط، ولن يكون لها أي اعتبار، إلاّ في حال تم تقييمها بمعايير الصورة الصحفية التي تعتمد أساساً على البعدين الرابع والخامس، اللذين قد يطغيان على الأبعاد الثلاثة الأولى." يوضح المصوّر مظفر سلمان، ويكمل "ولذلك يمكن أن نشاهد الكثير من الصور السيئة من حيث التكوين الجمالي، لكن يمكن أن تكون ذات قيمة عالية في الذاكرة العامة (في الذوق العام)، بالتالي نستطيع أن نفسر لماذا قال رولان بارت مرة أن "الفوتوغراف يحتاج إلى علم جمال خاص به، الفوتوغراف يُحدث انزياح بمفهوم الفن، لذلك يأخذ دوره في تطوير المجتمع". عمل مظفر سلمان في الأعوام الماضية الأخيرة مع رويترز في الداخل السوري.
دعونا نبني الصورة ذاتها، تتصدر الحشود المشهد، سيل جارف من الأجساد النحيلة ، وجوه متراصة بين خطين متوازيين من الأبنية الفخمة، أقرب الوجوه، وجه إمرأة مسنة، ترتدي على رأسها شالاً أسوداً، لم أرى وجهاً مرهقاً تعباً جافاً كهذا من قبل... الصورة التقطت في شارع تقسيم باسطنبول، في خضم يوم عادي لمدينة مزدحمة.
تتماثل هذه الصورة في أبعادها الثلاثة الأولى، الطول، العرض والعمق مع صورة مخيم اليرموك، الزاوية ذاتها، الضوء في العمق نفسه، مدى ظهور الأبنية، الكتلة البشرية.... هل يمكن أن تقول عن صورة كهذه، بأنها صورة جميلة؟
حاول فلاسفة الفن البحث عن القيمة الأساسية التي ينبثق منها العمل الفني وتأثيره، إذ انقسموا في القرن التاسع عشر إلى مدرستين: مدرسة المضمون ومدرسة الصورة. طرح رواد المدرستين أسئلة كثيرة: هل يقوم الفن على الصورة وحدها؟ على المضمون وحده؟ أم على كليهما معاً؟. هذه الحيرة التي تتجلى في تعليقات الحس العام اليوم، "العمل من حيث الأسلوب جيد لكن الفكرة ضعيفة"، "التقنية المستخدمة في إنتاج هذا العمل ذكية إلا أن الموضوع سطحي، النص من حيث البنية جيد لكن الفكرة مستهلكة… أو العكس، كما لو أنهم يعتقدون أنه يمكننا وصف جزء من العمل بأنه فن ونفيه عن الجزء الآخر من العمل نفسه، فصل النفس عن الجسد.
قال بندتو كروتشه في كتابه "فلسفة الفن": "سيّان إذاً أن نعد الفن مضموناً أو صورة، مادام المضمون قد برز في الصورة، وأن الصورة ممتلئة في المضمون".
في نسف كل ما سبق
بين تلك الحشود التي تتصدر المشهد، جسد نحيل، وجه شاب بين خطين متوازيين من الأبنية المدمرة، شاب أعرفه جيداً، في الحقيقة أنا لا أراه في الصورة هذه، لكني أتخيل أنه بينهم، أعلم أنه في مكان ما هناك بين هؤلاء، لا بل أنا على يقين تام أن عبدالله الخطيب داخل الكادر.
أرسلت له الصورة، سألته السؤال ذاته، كيف يمكن لـ هكذا صورة أن تكون جميلة، جميلة إلى هذا الحد؟.
"مشهد عادي شفتو كتير، مئات المرات بشغل المخيم وبمحيط المخيم، أنا ما بشوفها للصورة لا جميلة ولا بشعة، لأنو ببساطة أنا الصورة والصورة أنا..."