23/04/2015
الكاتب: سعيد البطل
المصوّر: سعيد البطل
في ذلك اليوم، بعيد الظهيرة، وبينما كنت في طريقي إلى "بسطة" الدخان: طاولة صغيرة، كرسي، بضع "بواكيت" من الدخان من نوعين أو ثلاثة كلها مفتوحة - لأنها تباع بالواحدة - رنت السماء. إنه الصفير الذي أصبح يولّد منعكساً عصبياً، يشلّ كل شيء حتى الزمن، بجرعة هائلة من الأدرينالين دفعة واحدة. إنه صفير الطائرة حين تغير، بشكل أدق، هو صفير الطائرة حين تغير، وتدرك بالحدس، أنك داخل دائرة الاستهداف المباشر.
يتوقف الزمن في الأفلام عند هذه هي اللحظة ويرى البطل شريط حياته في ثانية، لكنك في الواقع لا تسترجع شيئا، بل تمتص المحيط بعينيك. تمتص كل التفاصيل في المكان، التفاصيل التي لم ولن تلاحظها مهما عبرت هذا الشارع مراراً وتكراراً.
"تباً!! لم ألحق أن أشعل السيجارة" ترددت الفكرة في رأسي، ثم دوى الانفجار. أحسست بالضغط يرصُّ بدني كله، دام الأمر ثوانٍ، وبدى وكأنه مستمر منذ الأزل، ولم يتوقف حتى بعد زواله.
هدأ كل شيء في لحظات على شارع من ضباب، وأذناي لا تتوقفان عن الرنين، البائع الذي هرع لمكان الضربة ترك خلفه ما يبدو أنه البسطة وقد بدلت لونها بآخر رمادي، كان هذا أول ما لاحظته.
أدركت البسطة وأنا أنفض ثيابي، أمسح وجهي وأبحث بين جيوبي، انتشلت سيجارة حمراء طويلة مغبرة، رميت على الطاولة ورقة من فئة المائة ليرة، وضعت السيجارة في فمي، أشعلتها وعلت ابتسامة على وجهي خلسةً.
لست بلا مشاعر ولكن لم يبقَ الكثير منها، والذي جرى خلفي، بغباره ودمائه وعويله، أمسى رقصةً اعتيادية للمدينة، وإن كان هنالك شيء ما يميز البشر فهو فن التعود القميء.
أنا، و طوال السنوات الثلاثة أو الأربع الماضية، كنت إذا قام أحدهم بسؤالي عن أي من الأحداث التي مررت بها، ولأي سبب، استغرق وقتا طويلا في التفكير والتدقيق والتمحيص، كي أتمكن من الوصول الى البقعة الخاصة بتلك الذكرى في الدماغ، وكنت إذ ذاك، كمن يصطدم بجدار سميك ولزج، صعب العبور، خط دفاع ابتدعه العقل، لإنقاذي من السقوط في الجنون .. ربما!!
والدي ، ومنذ أيام ليست ببعيدة، طلب مني ان أسجل ولو سجلاً بسيطا، يؤرخ للأحداث التي شهدتها، شارحا لي أن أحد أهم أخطاء أبناء جيله هو قلة تسجيل التجارب الشخصية، وإنهم لو فعلوا ذلك ، لربما جنبونا كثيراً من الأخطاء، تكرار السقوط في ذات الأفخاخ، ، فلعلنا إن سجلنا نحن، ينجوا أبناؤنا. "الحل في الكتابة" هذا ما قاله.
لكن الأمر ليس بهذه السهولة، "أنا أدرك اليوم تماما لماذا لم يدون أبناء جيلك شيئا"، قلت له، أدرك أن الدماغ – دماغي أنا على الأقل- يرفض التذكر بسهولة، خاصةً وأنّ الأحداث تحوي كمّاً هائلاً من المشاعر المكبوتة بصمت، النكران: سبيل للحفاظ على التوازن، والكتابة هي اعتراف مباشر، والذاكرة مخبأ الروح، لا تعمل إلا على هواها.
خمسة أشهر ونيف، كانت قد مرت على آخر مرة غيرنا فيها منزلنا، بسبب زيارة للطائرة، بعدها أمسى بيتنا غير أهل للسكن، فقلت: علينا ببيت جدي، بيت جدي الفلسطيني العصامي المكافح، والذي حصل عليه بعد سنوات طويلة من العمل والجهد في أرض النفط، والتي عاد إليها الآن لأن بيته هذا أيضاً لم يعد آمنا، وقد كُتب له أن يواجه الموقف ذاته فكانت حصته مضاعفة، وفي حين كانت المرة الأولى على كتف حيفا في فلسطين بُعيد الطفولة، فقد كانت الثانية في دوما وعلى كتف دمشق، في أواخر الكهولة .
قرابة الأسبوع مر على انتقالنا، وقد كان كالاستجابة لألف صلاة، أسبوع بلا أي شكل من أشكال القصف، كأحد فضائل (هدى، العاصفة)، تحت بياض عارم، غطى الثلج كل شيء، فقد كانت رويترز قد وصفت أحد أعنف أيام هذه العاصفة وبشيء من الاحتفال: "يوم بلا موت".
وطبعا مع أول يوم مشمس، تحديداً في الخامس عشر من كانون الثاني للعام 2014 عادت "الملهوفة" -أي الطائرة كما نسميها-، حينها وبطبيعة الحال لم أكن مكترثاً بمعرفة موقع الغارة التالية أو السابقة، كنوع من الإذلال لها، وتفكيكٍ لفحوى هدفها في بث الرعب، فلو توقفت عن العمل عند كل طلعة للطيران أو وابل من القذائف لتقصد الملاجئ، فستقضي معظم أيامك في الأقبية. يوم عودتها، كنت في زيارة لأحد المكاتب الاغاثية.
الغارة الثالثة كانت قريبة حقاً، مزقت النايلون المغلف لشبابيك الغرفة، النايلون الذي حل محل الزجاج في معظم نوافذ مدينة دوما إن لم يكن جميعها. الضغط المرافق للبراميل بعثر الأوراق في المكتب، ورفع وتيرة الشتائم للأسد وعائلته، وهي عادة اكتسبناها فمع كل "رَشَق"، مع كل غارة وصاروخ وقنبلة تسمعها، هناك فيض من الشتائم المبتكرة والمركبة والمريضة.
بعد الغارة الخامسة رن الهاتف، نعم الهاتف الأرضي، كنا قد نجحنا بتكوين شبكة اتصالات أرضية خاصة بنا، شبكة تصل بين عدد من المكاتب المنتشرة في المدينة، معتمدين في ذلك على مقسم صغير وبطاريات، ولا تستطيع أن تصدق الفرح شبه طفولي الذي اجتاحنا حين رن الهاتف لأول مرة قبل بضعة شهور، وكم تغنينا برنته التي تطرب الآذان، الهاتف الأرضي الذي غاب عنا منذ التحرير، والاستديو كما المكتب الإغاثي كانا مرتبطان على الشبكة.
رفعت السماعة:
- بطمنك ما صرلنا شي، قال "عبد" مهندس الصوت متصلاً من الاستديو، والاستديو هو غرفة في قبو عزلناها بالخشب والداكروم وأصفاد البيض قبل نحو عام من ذلك اليوم.
- خير؟
-لا بس كتير قريبة الضربة، أخدت كاميرا وطلعت وهلق رجعت، قلت بلكي سمعت من حدا أنو الضربة قريبة أو قرأت عا النت، فقلت بطمنك.
- صحيح منيح يلي اتصلت، كنت أنا بدي دقلك، هات ورقة لنقلك في عندي شي ضروري تسجلي ياه.
- بالله ... شو ...! .
- في الغوطة الشرقية أكثر من 150 ألف عائلة محاصرة في ظروف ... عبد ... الطيارة رجعت؟ (وكنت أسمع أزيز انقضاضها) ..... كالعادة غارتين عا الأقل بنفس المطرح ..... فتلقى لإلك
- بالله مو سامع شــ...
- عبد صرك شي عبد يا عبد . لا من مجيب وقد انقلب المزاح واقعاً، صاروخان أصابا المبنى، المنزل أيضاً، وانقطع خط الهاتف.
ارتميت جالساً لثوانٍ، ثم قمت بتفعيل الروتين، الروتين الذي هو مجموعة الحركات والتصرفات التي تقوم بها تباعاً دون الحاجة للتفكير، فتحصل عبرها على بعض الوقت للتفكير. وروتيني سهلٌ جداً، أنتشل الكاميرا، أضغط على زر التسجيل، واتوجه للسيارة.
سبقنا سيارة الإسعاف التي كانت تتخذ ذات الطريق، وضوء التسجيل الأحمر يلمع في الكاميرا، كل الحي قد استتر في الضباب، والأشباح البشرية تجيء وتروح داخل الضباب، الصاروخان أصابا البناء جانبياً ، فانقشر معطياً ما يبدو انه مقطع عرضي له، من حيث موقعي أنا رأيت المطبخ، مطبخ جدتي وقد امسى مطلاً على الشارع.
لم أعرف حينها لماذا تماماً، ولكنني وجدت نفسي هذه المرة أهوي في الذاكرة، وأخفض درعي – الكاميرا -. شيئاً فشيئاً أصعد الدرج المملوء بالركام والعراقيل، وجدت نفسي في ديجافو (ما سبق رؤيته) لا ينتهي، تجولت عيناي في المكان، هنا خطوت خطوتي الأولى، وهنا تماماً حيث سقط الشباك في أولى أعياد ميلادي التي أذكرها، وهنا تلعثمت بكلماتي الأولى المبهمة، أو هكذا تؤكد أمي، وفي هذا الممر ركضت هارباً لأختبئ في حضن جدتي لأنجو من غضب أمي وعقابها.
فيض جارف من الذكريات، وكمية هائلة من الغبار، لم أعد أميّز فيها الواقع من الحلم.
شلل كامل أصابني، وكأن كل شيء يجري ببطء شديد جدا، وصوت الطائرة وهي تعود لغارة سادسة أو سابعة لم أعد أدري، دفع بالجميع خارجاً، وبقيت أنا وحدي وشعرت كما لو أن الطائرة كانت تغير على ذاكرتي لا على الحي، استهدافها كان لأشياء أبعد من الحجر، أعمق من ذلك بكثير.
الكاميرا ما تزال في يدي، فكرت أن هذا كان بالتأكيد شعور كل من صورتهم وشاهدتهم في حياتي من أناس متأملين لمنازلهم المحترقة، المهدومة. وهذا الثقب الأسود الذي كان يحتل عيونهم فيمتص كل شيء، هو ذاته الآن في عيني، وقد كنت من قبل أصورهم ولا أدرك، تماماً كأرجوحة لم تهتز من قبل.
كم تعاكس الكاميرا في عملها الطائرة وكأنها نقيضها التام، فهي التي تسعى وبشكل حثيث للدفاع، للتشبث بكل شعاع للضوء وهو ينعكس لكي يبقى للأبد، في حين تريد الطائرة محو كل شيء تماماً، كل الذاكرة، وأي مفتاح لها، حتى الرائحة.
بعدها بعشرة أيام، في ذات اليوم الذي يسجل لي على أنه إنهاء للدورة الثامنة والعشرين حول الشمس، وكنوع من الاحتفال المبالغ به، قامت الطائرات بأربع وخمسين غارة ، بين الثامنة صباحاً والخامسة عصراً... أربع وخمسون غارة على دوما.
بين الثامنة والتاسعة، لم أتحرك من السرير. بين التاسعة والحادية عشر، بدأ الأمر يتحول إلى حدث ممل وبدأت التجول في المنزل، وكانت الطائرات إلى حينها قد نفّذت ستاً وعشرين غارة.
بالصواريخ الموجهة، والتي تطلقها دون أن تنقض، ومن بعيد، لذا لا تسمع سوى صفير قبيل ثوانٍ، ثم انفجاران متزامنان لأنها لا تطلق الصواريخ إلا أزواجاً.
بالبراميل المتفجرة، حيث تغير الطائرة ولكنك لا تسمع الانفجار، حينها تنتظر 5 إلى 7 ثواني – تحتاجها المظلات للهبوط - ثم يرتج كل شيء.
بالصواريخ المضادة للطيران ، وحيث أنها لا تطلق إلا بشكل أفقي لتصطاد الطائرات، لذا على الطيار ان ينقض كالصقر ليطلقها على أهداف أرضية، وهنا تسمع أزيز الانقضاض يتلوه صفير الصواريخ ثم الانفجار.
في بيت جدي طبعا كل النايلون ممزق، بعض الأبواب خرجت من أماكنها وبعض الشبابيك كذلك.غريب هو الإنسان عندما يعتاد أمراً أو يملّه، عندها يصبح الصعود إلى السطح ليس بأمر صعب، ولا يبدو مخيفاً أو غبياً، إنها درجة من القبول يمكنك بعدها أن تضحك على نكتة سخيفة، وأنت تستمع للطائرة .. أن تشرب الشاي، أن تدخل إلى الحمام، أن تحتفل بعيد مولدك، وحتى أن تخرج لشراء السجائر.
مع حلول المساء كانت النيران ورائحة الغبار في كل مكان، بيوت وأحياء بأكملها مسحت ومعها آخر قدر من الاكتراث. أشعلت تلك السيجارة في ذلك الشارع المغطى بالغبار والضباب ومضيت عائداً إلى منزلي لأطالع عالماً افتراضياً مليئاً بصورٍ ومقاطع لتحطيم داعش للمتاحف وتكسيرها للتماثيل، ولأن داعش أوضح، فهجومها على الذاكرة الجمعية هو كذلك أيضاً.
باتوا – أعدائي -لا يستهدفون سوى الذاكرة ، وبالحديث عنها – ذاكرتي – فهي مع حواجزها، وسراديبها التي لا تنتهي، انتقائية التفاصيل، طاالعتني بذكرى لما يبدو الآن أنه في حياة أخرى، لافتة كتبتها ورفعتها في مضايا في أواخر السنة الأولى وبعد الحصار الأول للقرية الجبلية الصغيرة: "إلى أن تتمكن مروحياتك من التحليق في أحلامي لن ترى انهزامي".
والآن ها هي الكاميرا على الكرسي أمامي، الكاميرا التي كانت درعاً لحمايتي، بات عليها حماية ما هو أكثر من ذلك بكثير، أصبَحت وبعدستها التي لا تتوقف عن امتصاص الضوء، مضاد الطيران الخاص بي.