في الصحافة

بعدنا طيبين "في حلب" - بقلم راشد عيسى

11/06/2013

مثل هذه المَشاهد كنا نراها غالباً في خلفية فيلم ما، تحضيراً لمشهد، أو فاصلاً بين مشهدين. فليس هنا سوى هذه الحركة الدؤوبة، والصخب
لولا حكاية الصبي الحلبي محمد قطاع "سلمو"، ربما كان فيلم "بعدنا طيبين" ليقُرأ بطريقة أخرى. فالفيلم المهدى "إلى روح الشهيد محمد قطاع، وجميع الباعة المجهولين، الذين يجعلون الحياة ممكنة في حلب"، يبدو كأنه صُوّر غداة استشهاد الصبي، لولا أن صُورَ الفيلم تشي بالشتاء، وتُرى ملابس ثقيلة في حي الشعار الحلبي، حيث البضاعة المباعة شتوية أيضاً. لولا ذلك لقلنا إن الفيلم صُوّر في ضوء حكاية "سلمو"، وهذه براعة تحسب للفيلم الذي أنتجته مؤسسة "بدايات" من تصوير وإخراج عروة مقداد في تجربته الأولى.
 
 
كان "سلمو" بائع قهوة متجولاً قبل أن يعدمه اللصوص بدعوى التجديف. بائع ككل مَن ترك وراءه عائلة تنتظر ربطة خبز لا سبيل إليها سوى هذا العمل. فجأة، يستحضر المرء صور الباعة في الطرقات، من دون أن تغيب عن البال صورة عربة خضار البوعزيزي التي أشعلت ثورة، وافتتحت ربيعاً.
 
 
هكذا يتجاهل فيلم "بعدنا طيبين" المَشاهد المعتادة للحرب والقتل، ليسلط الضوء على العادي في حياة الناس في الحي "المحرر"، على ما يكرر محقق الفيلم. يريد المخرج أن يرى أثر الحرب في الناس، حركتهم، ويومياتهم. لذلك فإن الأيدي، والخطى، والحركة الدؤوبة في الشارع ستكون هي البطلة. لا صور هنا للأيدي التي تضغط الزناد، ولا للأيدي المقطوعة. بل الأيدي التي تقطع البصل من أجل وجبة كباب حلبي، وتلك التي تشعل النار، ويد طفل تحاول فتح أنبوب المازوت. لا يفوت الكاميرا أن تدفع المُشاهد إلى المقارنة بين سكين تُمسح تحضيراً للقتل، وأخرى تُعدّ لأفعال إنسانية يومية وبسيطة.
 
 
يبدو الفيلم (5 دقائق و18 ثانية) والذي بُث عبر "يوتيوب"، كأنه يصور ما تبقى في المكان من حياة. يترك لنشرة الأخبار أن تصور وتعدّ القتلى والأبنية المدمرة، كما يترك صور سقوط طائرة أو قصفها، تفجير دبابة، أو تدمير للأحياء، ليلاحظ قطة على الرصيف، وخطى المارة، إصرار الناس على العيش. لذلك تجد المخرج مشغولاً بسؤال واحد: "ألا تخافون الطائرات هنا؟"، ولا يبدو أنه مشغول حقاً بالإجابة. كأن السؤال يأتي ليذكّر بأنه فوق هذا الصخب الإنساني، صخب العيش اللذيذ، تسرح طائرات تصيد الناس، وفي إمكانها برَمية برميل أن تمحو كل شيء. لكن إجابات الناس تأتي أوضح من عواء الطائرات: "نخاف، لكن الله الحامي، أمرنا لله"، ويضحكون ضحكات صافية، متابعين إيقاظ نار الشواء، وتقطيع البصل، ثم شارة نصر لطفل بعيد بمجرد أن يرى الكاميرا.
 
 
مثل هذه المَشاهد كنا نراها غالباً في خلفية فيلم ما، تحضيراً لمشهد، أو فاصلاً بين مشهدين. فليس هنا سوى هذه الحركة الدؤوبة، والصخب. غير أنها، في فيلم طالع من حلب المدمرة، هي الفيلم كله، هي الشاهد على إصرار الناس على العيش. يحتفل الفيلم بصخب المكان، ويتركه مفتوحاً على آخره... اللهجة الحلبية، صراخ الباعة، ضحكاتهم، وأبواق السيارات، وهكذا... إلى أن تهبط العتمة، فتخفت الصيحات، ينادي ولد على أخيه لأن العائلة بانتظارهما، ولأن فيلماً آخر سيبدأ في الصباح التالي.


عن موقع المدن الالكتروني


رابط المقابلة
http://www.almodon.com
 
المشاركة
عرض المزيد