في الصحافة

مقال عن فيلم "Coma" في جريدة المدن الالكترونية، بقلم رائد الرافعي

07/12/2015

كوما.. انتشال النفس السورية من الحرب

الكاتب: رائد الرافعي

كيف يكون الإنتظار؟ إنتظار عودة حبيبٍ غائب، أو مدينةٍ تتفتّت، أو ماضٍ يتحلّل. فيلم المخرجة السورية، سارة فتاحي، "COMA" (كوما أو الغيبوبة)، يدخل في أعماق حالة الإنتظار بعبثيتها وقساوتها عندما تكون عودة ما مضى مستحيلة. الحتمية الوحيدة هي أنّ الزمن يمرّ عبر الإيقاع الثابت لضربات عقارب الساعة الثقيلة في غرفة جلوس منزلٍ دمشقي وعبر الفصول التي تتهاوى بانتظام على المدينة وأهلها.

فيلم فتاحي، الذي حصد جوائز في مهرجانات سينمائية عالمية هذه السنة، يعالج تفاصيل حميمة لحياة ثلاثة نساء في ثلاثة عقود مختلفة من الزمن ويوثّق يومياتهن تحت سقف المنزل الواحد. فتاحي ولمدة أربع سنوات تقريباً صوّرت والدتها وجدّتها في داخل شقّتهن الدمشقية بينما كان البلد يدخل في دوامة صراع طاحن.

لا يتحدث الفيلم عن الحرب في سوريا. ولكنه في الوقت نفسه (وبامتياز) يلتقط الومضات المبهمة لتلك الحرب. كوما، فيلم يمكن وصفه بالجوهري، بمعنى أنّه ينزع القشور الخارجية عن العملية المعتادة في توصيف الحرب السورية ليبحث عن الجوهر أو عن ماهية ما تحدثه الحرب (أيّة حرب) في الداخل الإنساني. وبذلك، أعادت فتاحي إلى الفرد السوري إنسانيته بعد أن سلبته إياها (ولا تزل) ماكينات الإعلام المحلّي والعالمي بخلقها صورة نمطية عن الفرد السوري كضحية أو لاجئ أو حتّى كمخلوق غريب وكأنّ الإنسانية لم تعرف من قبل عنف ووحشية الحروب المدمّرة. فالفيلم يذكرنا بأن الشعور بالحزن والموت والفراغ والفقدان هو واحد، وأنّ ما هو أساسي هو تعاطي الفرد مع هذا الواقع في عملية ممارسة (وببساطة) لإنسانيته.

"
كنت مهووسة في مراقبة والدتي وجدّتي وتسجيل كل لحظات حياتهما خوفاً من أنّ أفقدهما. كنت أقترب بالكاميرا من وجوههما وكأنني أحتاج إلى تسجيل كل تجعيدة قبل أن تختفي"، تقول فتاحي لـ"المدنّ".

بدأت المخرجة العمل على الفيلم بعد وفاة جدّها الذي ربّاها والذي رحل عن العالم بعد الدخول في حالةٍ من الغيبوبة. ومع فقدان الجدّ (والذي حلّ مكان الأب في حياة فتاحي) بدا كل شيء قابلاً للإنهيار، حتّى الذاكرة. "أحسست بتشويش في ذاكرتي وكأنها تتدمر أو تتفكك"، تقول

توصّف فتاحي بتأنٍ حالة الإنزلاق نحو الغيبوبة لتحاول انتشال من حولها من أفراد تحبّهم والمدينة بأكملها ومن فيها بشكل رمزي من الظلام والعدم. ما يجعل القلب ينقبض في الفيلم هو تحديداً قربها من شخصيتيها وكأننا نشاركها محاولة الدخول إلى أعماق هاتين الشخصيتين لإنقاذهما وإنقاذ نفسها من حالة الجنون التي تنجم عن إنهيار كل الثوابت. الجدّة تبحث عن تقبّل ونسيان وفاة زوجٍ عشقته بالصلاة ومشاهدة الأفلام الدرامية المصرية والوالدة تتشبّث بأنوثةٍ حاول سلبها إياها الزوج المعنِّف، وسارة المخرجة، تبحث عن حبيب غائب يعيد ثقتها بإمكانية المستقبل في جوّ يبدو فيه الزمن نفسه في حالة تكرار مستمرّة.

عناصر الفيلم السينمائية من ضوء حميم مُعتم وشريط صوتي "مخنوق" ومونتاج بطيء، يتجانس مع حساسية عدسة فتاحي العالية تساعد في الدخول في حالات الفيلم النفسية المتأزمة.

ويتأرجح الفيلم بين الوحدة في المعاناة ومواساة الشعور بأنّ الآخر حاضر وبأن المأساة هي ربما جماعية. والتفاعل بين شخصيات الفيلم يذكرنا بأجواء أفلام المخرج السويدي إينغمار برغمان بعمقها وعنف المشاعر الداخلية التي تعالجها. ومع اكتشافنا لشخصيات الفيلم تدريجياً تصبح أزمة غياب رجل عن المنزل محورية. الفيلم ثوري من هذا الجانب إذ يخترق جدار "حرمة المنزل" حيث المرأة وحياتها الداخلية يجب أن تبقى طيّ الكتمان وفي حالة من السرّية تجعل منها مادة غامضة لنزوات الرجل وتخيّلاته. غياب الرجل (البطريرك أو ربّ المنزل) يصبح أيضاً مجازياً وأشبه بإنذار بنهاية مرحلة بأكملها من حكم القيادي الواحد (الأب الروحي للأمّة).    

ومن جهة أخرى، يطرح الفيلم أيضاً تساؤلاً ضمنياً عما إن كانت السينما قادرة على مقاومة القوى التي تدفع الفرد نحو الإنهيار. في مشهد مؤثّر نرى مشاهد أرشيفية من حرب تشرين (الحرب بين العرب وإسرائيل في  العام 1973) وهي تعاد إلى الوراء وكأنّ فتاحي وفي تلك اللحظة (لحظة إعادة عقارب الساعة إلى الوراء)، لديها القدرة على التلاعب بالزمن نفسه بكونها العين (العدسة) التي تلتقط الواقع وبالتالي تمتلك ذاك الواقع وتستطيع التحكمّ به.

وتلعب المخرجة بإتقان على عمليات دخول وخروج الشخصيات من الكادر والإرتباط بين ما تصوّره الكاميرا أي داخل المنزل وبين العالم الخارجي الذي لا ترينا إياه.

"
لا يمكن الإحساس بالمجموعة من دون الإحساس بالفرد،" تقول فتاحي وكأنها تضع إصبعها على صلب الأزمة في الكيان العربي المشترك، وهي أنّ الفرد هنا دائماً تسحقه الأيديولوجيات والأنظمة والشعارات. ولعلّ أكثر لحظات الفيلم قوة هي لحظة إدراك الوالدة، غرام (الإسم اختاره والداها لأنها جاءت كثمرة حبهما الوحيدة)، بأنّ الحرب هي الحرب التي يعيشها الإنسان في الداخل. "الحرب فينا.. الحرب بداخلك".

عرض الفيلم COMA نهار الأربعاء ٢ كانون الأول (ديسمبر) في صالة متروبوليس في بيروت.

 

رابط المقال على موقع المدن: http://www.almodon.com/culture/6fe8ef89-d5cc-489c-b0a4-ee1750b3c5c3

 

المشاركة
عرض المزيد