مقالات بدايات

سرديّة الثورة المصريّة: السينما/الذاكرة/الصورة

11/04/2018

كانت الشمس في طريقها إلى الرحيل حِينَ أُعلن عن سقوط «مبارك» في١١ فبراير ٢٠١١، ثمة إضاءة خافتة خيّمت على أجواء الفرح في ميدان التحرير، إضاءة جعلت الصورة تبدو ملحمية حِينَ تسلق شخص أحد الأعمدة المرتفعة في منتصف الميدان، محاولاً تثبيت علم مصر.

الكاتب: مازن حلمي

سردية الثورة المصرية: «السينما الذاكرة الصورة».

 

سبع سنوات مرّت منذ انطلق هتاف المتظاهرين لأول مرة في وسط القاهرة مطالبين برحيل النظام. كانت المدينة خلفية للحدث وشاهدة عليه ، شاهدة على تلاشي الفرد في موجات الجموع، والذاكرة تبدو كشريط صالح لتسجيل ملايين الساعات والتفاصيل. كانت الحقيقة مجردة من الزمن ومتورطة في عفوية الهتاف: «الشعب يريد إسقاط النظام».

 

في اللحظات الأولى من ثورة ٢٥ يناير في مصر لم يكن أحداً منشغلا بتوثيق الأحداث بقدر الانخراط فيها. الجميع كان يرمي بذاتيته ومنظوره الفردي خارج ميدان التحرير، أملاً في أن تكون تلك هي لحظة الذروة التي لا يتبعها سوى الشعور بالانتصار، لحظة التوهج التي ربما يتوقف الزمن عندها.

 

تلاحقت الأحداث فيما بعد ومرّت الثورة بعدة أطوار ما بين الانتصار والهزيمة، حتى بدأ النظام يعيد فرض سيطرته مرة أخرى على الآلة الإعلامية؛ محاولاً فرض روايته الرسمية للأحداث. أصبح على الثورة خوض معركة أخرى في ميدانٍ مختلف، أصبح على الثورة تسجيل روايتها لما حدث في مصر خلال السنوات الأخيرة.

 

حِينَ تقف عند نقطة توثيق حدث مثل الثورة، لا يمكن أن تبدأ من اللحظة التي اندلعت فيها، ولا يمكن تجريد الحدث من المقدمات التي سبقته أو من وضعه في معزل عن المكان الذي يدور فيه. وهنا كان دور السينما حاضراً لكي تصنع للثورة سرديتها الخاصة للأحداث في مقابل الرواية الرسمية للدولة، سرديتها التي تتماهى مع المدينة كعنصر رئيسي ومكون للحدث. تحاول السينما في تلك اللحظة تفتيتتفكيك الحواجز بين الصورة والذاكرة .. المكان والثورة .. الحقيقة والزمن.

 

الصراع على السردية والرواية التاريخية للحدث بين الدولة والمشاركين في الثورة يمكن رؤيته من خلال فيلمين هما: «الميدان» ٢٠١٣ و«آخر أيام المدينة» ٢٠١٦. لا يبدو الفيلمان متشاركين فقط في الاحتفاء العالمي من خلال المهرجانات الدولية أو اشتراك عدد من صناعهما في الفيلمين. لكن التشارك الحقيقي في الموقف الذي اتخذته الدولة منهما منذ اللحظة الأولى هو منع الفيلمين من العرض داخل مصر لدواعٍ سياسية تحت غطاء إداري وبحجة أن هناك خللا في استكمال الأوراق المقدمة للرقابة من جانب الجهات المنتجة.

 

«آخر أيام المدينة»: تداعي القاهرة قبل الانفجار.

تدور أحداث «آخر أيام المدينة» قبل الثورة. يجمع الفيلم الذي عرض لأول مرة في الدورة الـ66 من مهرجان برلين السينمائي الدولي عام ٢٠١٦، بين نوعين من القوالب السينمائية (التسجيلي/الروائي).  مخرج الفيلم تامر السعيد صرّح ذات مرة أنه لا يعترف بتحديد قالب للفيلم (روائي أو تسجيليّ)، فالفيلم هو فيلم في النهاية، وحسب تصريحه: «بالنسبالي الفيلم استخدام للصوت والصورة بطريقة خلاقة للتعبير عن موقف من العالم».

 

 

منذ اللحظة الأولي يؤسس الفيلم لتماهٍ واضح بين فردية حكاية كل شخص والمدينة، كل منهما مرآة للآخر، وهو الأمر الذي بنيَّ عليه فلسفة الفيلم البصرية؛ دلالة الصورة كصانع رئيسي للأحداث. أسلوب المخرج كان واضحاً منذ البداية في استخدامه  لشريط الصوت لالتقاط الصمت أو ارتفاع الموسيقى في كثير من الأحيان كعنصر متداخل مع الصورة، ليعطي للمشاهد التسجيلية ثقلاً أكبر على حساب الخط الروائي.

 

ينطلق الخط الروائي في الفيلم من خلال الشخصية الرئيسية (خالد عبد الله) الذي يحاول إخراج فيلمه الأول عن القاهرة. بدا أن هناك خطا سرديّا واضحا يحاول "تامر السعيد" الاعتماد عليه في الفيلم، وهو اقتفاء أثر المدينة وروحها، وربما هو الأمر الذي جعله يستخدم أسلوب الارتجال في أغلب المشاهد. ساعده أسلوبه في التعامل بحرية أكبر محاولاً التقاط تلقائية المدينة في زمن الفيلم الذي لا يتجاوز ١١٨ دقيقة.

 

الخط الروائي داخل الفيلم يساعد بشكل كبير على استكمال الحالة التسجيلية التي يحاول صناع الفيلم من خلالها توثيق المدينة، حيث تنخرط الشخصية الرئيسية في عدة أزمات تدعم الخط السردي في التقاط واستقصاء تلقائية المدينة: بداية من محاولة البطل صنع فيلمه عن القاهرة وتصويره للحظات مختلفة تمر بها المدينة بين الفرح والحزن والخذلان: الرقص في الشوارع من أجل مباراة في كرة قدم، هدم البنايات القديمة في وسط المدينة، مشاهد الحرائق والانفجارات، الاعتصامات التي تملأ القاهرة في ذلك الوقت.

 

يقدم الفيلم سردية مدينة تعيش أيامها الأخيرة. تستطيع أن ترى تداعيها في كل مشهد، ويبدو أن المخرج كان مخلصاً لجملة محمود درويش: «أينما وليت وجهك، كل شيءٍ قابل للانفجار». كانت المدينة على أعتاب شيء لا يدركه أحد، لكن يمكن الشعور به في كل مشاهد المدينة التي تخبرك أن كُل شيءٍ في القاهرة قابل للانفجار.

 

الرحلة التي يخوضها البطل في البحث عن شقة تجعله ينخرط أكثر بالمدينة محاولاً الإمساك بروحها بشكل أعمق بعيداً عن الأحداث العامة والأزمات الجماعية، يواجه المدينة من خلال فرديته. أزماته الشخصية تدفعه أيضاً لذلك؛ سواء مرض أمه، أو علاقته المركبة بحبيبته التي تقرر الرحيل عن مصر، ليجد نفسه متورطاً أكثر في فرديته ومواجهة المدينة.

 

بدا أن البطل في النهاية لا يملك سوى ذاكرته الفردية محاولاً الاتكاء عليها، يذهب إلى أحد أقدم وأشهر برامج الراديو في مصر «أبلة فضيلة» والذي كان يعمل والده فيه لسنوات طويلة، محاولاً ترميم ذاكرته من أجل صورة أوضح عن ذاته.

 

 

 

 رغم عرضه في العام ٢٠١٦ إلا أن معظم مشاهد الفيلم تم تصويرها خلال السنوات التي سبقت الثورة، حيث استغرق انتاج الفيلم ١٠ سنوات. لم يخل الفيلم من أعراض التجربة الأولي والعيوب الفنية التي تخص الترهل ومحاولة الحديث عن كُل شيءٍ، كما يرى بعض النقاد. إلا أن العيب ذاته قد يجعل الفيلم بمرور الوقت وثيقة على قاهرة قد تلاشت مع الزمن.

 

ماذا عن الذاكرة الفردية؟

بعد أحداث ١١ سبتمبر في أميركا، رأى  بعض العلماء المهتمين بأبحاث الذاكرة في جامعات عدة داخل الولايات المتحدة الأمريكية البدء فوراً في تسجيل روايات بعض الأشخاص عن الأحداث. وبالفعل في اليوم التالي من الأحداث قاموا بتسجيل روايات بعض الأشخاص الذين عايشوا الحادث، بعد أسبوع أعادوا التسجيل مع نفس الأشخاص، وكانت معظم الروايات متطابقة.

بعد عام أعادوا التسجيل مع الأشخاص ذاتهم، وبدو واثقين للغاية مما قالوه للباحثين، إلا أن 63% فقط من الأحداث التي روها كانت صحيحة. بعد ثلاث سنوات من الحادث أعادوا الأمر، لكن نسبة دقة الإجابات هذه المرة كانت 57% فقط. لكن رغم ذلك كان الجميع يمتلك الثقة ذاتها التي حكى بها الأحداث للمرة الأولى.

 

حِينَ نكون في قلب الحدث لا نحتاج إلى شخصٍ آخر يروى لنا شيئًا، ما نراه فقط هو الحقيقة وما غيرُ ذلك زيف مُبين. لكن حِينَ يمرّ على الحدث شهور وسنوات، تصبح الحقيقة ما تدركه ذاكرتنا، وما غير ذلك يبقى زيفا حتى ندرك تلك النقطة التي نحتاج فيها أن تُروى لنا أحداثاً عايشناها ولم نعد متورطين معها بهذا القدر الذي كنَّا عليه منذ سنوات، هنا تصبح الحقيقة وفقاً للجانب الذي تنتمي له السردية ورواية الحدث.

 

«الميدان»: رواية مباشرة للأحداث.

 

اتخذ الفيلم الوثائقي «الميدان» سردية واضحة للأحداث التي وقعت خلال أعوام الثورة المصرية، رواية مباشرة ومحددة بتسلسل زمني، تبدأ مع اندلاع المظاهرات في ميدان التحرير مطالبة برحيل نظام مبارك. يقدم الفيلم روايته للأحداث مستعينا بثلاث شخصيات رئيسية يحاول سرد الأحداث من خلالها، شخصيات تنتمي إلى تيارات فكرية وطبقية وثقافية مختلفة.

 الفيلم منع من العرض في مصر بعد عروضه الأولى في كثير من المهرجانات الدولية في عام ٢٠١٣، ودخل ضمن القائمة النهائية لجائزة الأوسكار لعام ٢٠١٤.

يبدأ الفيلم من النقطة التي انتهى عندها فيلم «آخر أيام المدينة» متخذاً المدينة كجسر للعبور إلى تفاصيل ما يحدث. بدا أن الرابط الرئيسي بين الفيلمين هو شخوص صناعهما الذين يحاولون صنع سردية ورواية لما حدث في مصر خلال السنوات السابقة، وهو الأمر الذي بدا واضحاً في أحد مشاهد «الميدان» من خلال جملة قالها (خالد عبد الله) الشخصية الرئيسية في الفيلمين: «حكايتنا محدش بيحكيها غيرنا إحنا».

 

 

 

 

يتخد فيلم «الميدان» خطه وإيقاعه الزمني من تسلسل أحداث الثورة، يحاول الانتقال بين ثلاث مسارات زمنية: قبل الثورة وأثناءها وبعدها ، ما يجعل الفيلم أيضاً يتحرك ما بين نوعين من الأسلوب (الوثائقي والإخباري). الخطوط الرئيسية للفيلم والتي تقدم سرديتها لما يحدث تدخل في الإطار الوثائقي، ما يجعل المشاهد تغوص في أعماق القصة الإنسانية للشخوص الرئيسية.

يحاول صناع الفيلم أحياناً عرض الرواية الأخرى للحدث، سواء من خلال محلل استراتيجي -انتماءه واضح للأجهزة الأمنية- أو حتى من خلال ضابط جيش يقدم سردية مغايرة للأحداث. لكن الأمر يبدو هزلياً في حضور المشاهد الطويلة من انتهاكات أجهزة الأمن للمواطنين العزل، أو مشاهد القتل والدهس التي يتعرض لها المتظاهرون من قبل قوات الشرطة والجيش.

تتحرك الأحداث داخل الفيلم وفقاً للتغيرات السياسية، فالمشاهد التي تم تصويرها خلال ثلاث سنوات من المظاهرات والاشتباكات التي وقعت في مصر، ترسم مساراً واضحاً يوثق لحظات الانتصار، الأمل، الموت، الانكسار، الفرح وينتهي عند مرحلة التأهب.

طوال الفيلم لم تظهر أي من علامات الهزيمة الواضحة، أو ربما أراد صناع الفيلم عدم إعلان ذلك خوفاً أن يكون الأمر استباقاً للأحداث. لكن حالة التأهب التي ينتهي عندها الفيلم بعد سقوط نظام الإخوان المسلمين في مصر عقب مظاهرات ٣٠ يونيو، وسيطرة الجيش على مقاليد الحكم وارتكاب المجازر في حق المتظاهرين الرافضين لرحيل الرئيس الأسبق محمد مرسي، كل ذلك دفع مسار الأحداث إلى حالة تأهب ثقيلة تنذر بهزيمة قاسية للثورة.

 

صورة: داخل الزمن وخارجه.

 

كانت الشمس في طريقها إلى الرحيل حِينَ أُعلن عن سقوط «مبارك» في١١ فبراير ٢٠١١، ثمة إضاءة خافتة خيّمت على أجواء الفرح في ميدان التحرير، إضاءة جعلت الصورة تبدو ملحمية حِينَ تسلق شخص أحد الأعمدة المرتفعة في منتصف الميدان، محاولاً تثبيت علم مصر.

 

 

 

بعد سيطرة القبضة العسكرية على الحكم في مصر، أغلق ميدان التحرير فترة طويلة، ثم عاد في حلته الجديدة بعد وضع «ساري علم» بطول ٢٠ متراً في منتصفه. عادت الصورة مرة أخرى داخل الزمن، مخلصة لقبح المشهد وسردية الدولة.

 

 


 

 

المشاركة
عرض المزيد