مقالات بدايات

إيلان وعمران نموذجين لانقضاء زمن صورتهما

27/09/2016

إن كان "كينيث جاريكيه" يعزي نفسه بأن صورة الجندي العراقي كان يمكن لها أن تبدل مسار الحرب لربما عليه أن ينظر مليا الى صور سورية التي لم تفعل سوى أن كرست عجز العالم حيالها.

الكاتب: ديانا مقلّد

 

بالأبيض والأسود يظهر في الصورة رجل متشبث بنافذة الشاحنة وقد تفحم. لسبب ما لم تتمكن ألسنة اللهب من محو ملامحه تماما فبدا مطبقا بشدة على اسنانه يحاول الخروج من العربة المحترقة لكن النيران كانت أسرع وأقوى منه فاحتجزته في مكانه وثبتته يصارع الموت حتى اللحظة الأخيرة. 

الرجل جندي عراقي وصورته التُقطتْ على ما عُرف بطريق الموت الذي يربط شمال الكويت بجنوب العراق حيث كانت قوات التحالف في حرب الخليج عام ١٩٩١ تقصف موكباً عراقياً يحاول التراجع.
 

بعد ساعات قليلة من قصف المواكب العراقية التي تناثرت عرباتها المحروقة وجثث عناصرها في الصحراء التقط المصور الاميركي "كينيث جاريكيه" صورة الجندي التي كانت تحوي كل عناصر صورة الحرب مازجة الألم بحقيقته القاسية وجماليته الفنية. اعتقد "جاريكيه" حينها أن صورته ستغير من نظرة الأميركيين الى حرب الخليج،: "يمكن ان نرى بوضوح كم كانت الحياة ثمينة بالنسبة الى ذلك الجندي لانه كان يقاتل لينجو حتى اللحظة الاخيرة الى ان احترق تماما".
 

التقط "جاريكيه" الصورة قبيل وقف اطلاق النار الرسمي في عملية عاصفة الصحراء التي قادتها الولايات المتحدة وأدت الى اخراج قوات الرئيس العراقي صدام حسين من الكويت بعد احتلالها وعاد الى الولايات المتحدة معتقدا ان وسائل الاعلام ستتهافت على نشر صورته لانها تتحدى الرواية الرسمية الاميركية عن حرب "نظيفة" في العراق، لكن على العكس من ذلك فالصورة لم تُنشر في الولايات المتحدة ليس بسبب قيود الجيش الاميركي بل بسبب قرارات تحريرية من وسائل الاعلام الاميركية الكبرى التي رفضتها..
 

يميل الاعلام الغربي وتحديدًا الأميركي الى تقديم تغطية "معقمة" لصور الموت وهذا الأمر يسهل علينا قبول قسوة الحرب التي لا نرى حقيقتها، وهذا ما يعتبره جاريكيه  وقف حائلا دون نشر الصورة ورد عليه بالقول: "ان كنا كباراً ما يكفي لخوض حربا يجب ان نكون كبارا ما يكفي لننظر اليها".
 

ناقضت صورة الجندي العراقي كل ما روج له الاعلام الاميركي عن حرب الخليج بصفتها مجرد العاب فيديو وصراع عبر قصف دقيق ومعدات لايزر. وهنا حرَمَ قرارُ عدمِ نشرِ صورة الجندي العراقي الرأي العام من فرصة مواجهة هذا "العدو" العراقي المجهول ومعرفة ما هي لحظاته الاخيرة. قتل في الحرب تلك عشرات آلاف العراقيين الذين لم يحسم عددهم حتى اليوم لكن الرأي العام الاميركي لم ير صورة واحدة لهؤلاء. مع ذلك لم تخسر صورة الجندي العراقي صداها تماما فقد نشرتها صحيفتا "الاوبزرفر" البريطانية و"الليبراسيون" الفرنسية وبعد اشهر ظهرت الصورة في "اميركان فوتو" وخلقت جدلا لكن متأخرا ما خفف من وقعها. كان من الصعب حينها تقدير ما بوسع هذه الصورة ان تفعل لو نُشرت في أوانها وما اذا كانت ستخلفُ ردةَ فعلٍ تبدل من مجريات الأحداث.
 

ثبتت صورة الجندي العراقي مكانتها في ذاكرة صور الحروب التي مرّ أكثر من قرن على بداية توثيقها البصري، وهذه الذاكرة حافلة بالصور الأيقونية التي أرّخت للحظات قاسية عنيفة من صراعات العالم وجعلتها مادة بصرية تمازج ما بين قسوة  المشهد وفظاعته أحيانا وما بين احتراف بصري في كيفية التقاط الصورة ما خلّد لحظات تاريخية تمكن الرأي العام أن يشاهدها ويتفاعل معها لأجيال.

 

اعتقد "كينيث جاريكيه" أن صورة الجندي العراقي كان يمكن أن تغير مسار الحرب ولعله يعزي نفسه أن التوقيت ظلم لقطته وأضعف من أثرها، لكن ماذا لو كانت عرضت الصورة في حينها فهل كان مسار الحرب سيتغير.

لا أحد يملك الجواب!
 

لربما من الأفضل أن لا نعول كثيرا على صورة بعينها، فقبل صورة الجندي العراقي شهد العالم قرنا من المعارك والأزمات المصورة ولا يزال يشهد على نحو جنوني المزيد من الصور لكن لا تزال هناك حروب بل باتت صور الحرب والقتل تفصيلا من يوميات عيشنا بعد أن غير الانترنت ووسائل التواصل الاجتماعي من مسار وصول الصور لنا وتأثيرها فينا. فنحن اليوم نطور شغفنا بالصور التي باتت تحكم نظرتنا الى العالم وأحداثه ومن بين تلك الصور صور الحروب أو بمعنى أدق الفوضى البصرية التي تحكم صور الحروب والتي بدلت مفاهيمنا حيال الأحداث وكيف نتفاعل معها.
 

يعبّر صحافيو ومصورو الحروب عن قناعة مشتركة تختصر بذاك الهوس والشغف بأن تتمكن صورة ما من تغيير مواقف السياسيين والرأي العام تجاه حدث ما ولربما تبدل مسار الحدث نفسه. حصل هذا فعلا في حالات عدة كما مع مشهد اعدام اسير "الفيتكونغ" عام ١٩٦٨ وصورة الفتاة العارية لهجوم النابالم عام ١٩٧٢ وصور فظاعات البوسنة ولاحقا صور تعذيب سجناء أبو غريب.. هذه بضعة من أحداث ساعدت صورها الصادمة في قلب الرأي العام وتغيير قناعاته بما أثر على نتائج الحدث المؤسس للصورة.
 

هذا لا يلغ حقيقة أكثر دلالة وهي أن أعداد من قتلتهم حروب القرن العشرين ناهز المئتي مليون ولهذه الحروب آلاف الصور التي نقلت فظاعات. وقف خلف تلك الصور أشخاص توهموا أن نشر مشهد سيكشف حقيقة وسيحدث فارقا كبيرا. مع الوقت تنامت تلك العلاقة المفترضة ما بين صور القسوة والحرب وثقافة حقوق الانسان.

 

كان هذا كله قبل سورية التي تحطمت فيها قدرة اي صورة على إحداث تغيير فباتت المشاهد من هناك تفيض وتتبارز في اظهار العنف ومآسيه. من صور تعذيب الى قتل وتجويع وموت بالغاز السام ولائحة لا تنتهي لفظاعات شهدناها بالصوت والصورة وأحيانا بشكل مباشر مع ذلك عجز ذاك السيل من الصور عن ضبط العنف هناك او حتى الحد منه.
 

قبل سورية كان هناك حدود لسوريالية الأحداث بحيث لا يعود احد يصدقها، لكن مع الثورة السورية التي تحولت لاحقا الى حروب صغرى وكبرى تم اغراق العالم بعشرات آلاف الصور التي تحمل في كل واحدة منها حكاية قاسية ولنفهم تقريبا ما نعنيه حين نقول أن في سورية آلاف الصور. يكفي ان نوضح أن وكالة Getty Images جمعت حتى اليوم حوالي ٨٠ الف صورة عن الحرب في سورية وحدها اختيرت لقيمتها التوثيقية. مع ذلك لا يمكن القول أن هناك صورا وفيديوهات قادرة أن ترينا المعاناة التي عاشها السوريون لسنوات.
 

ومن بين آلاف الصور السورية للفظاعات الكبرى التي ارتكبها النظام السوري او بعض الفصائل المسلحة برزت صورتان تباعا في العامين ٢٠١٥ و٢٠١٦، الاولى للطفل ايلان الكردي الذي غرق خلال محاولة عائلته الهرب عبر البحر الى اوروبا فلفظته المياه الى الشاطئ التركي حيث التقطت له صورته الشهيرة التي قلبت الرأي العام الغربي وولدت تعاطفا كبيرا مع اللاجئين، والثانية بعد عام تقريبا لعمران، الطفل الحلبي الذي نجا من قصف البراميل على المبنى الذي يسكنه في حلب فظهر مغطى بالتراب ذاهلا من وقع الصدمة عاجزا عن الكلام او حتى البكاء.
 

من مجمل آلاف الصور السورية كانت صورتا ايلان وعمران الاكثر وقعا وتداولا وتحليلا على امتداد العالم الى حد توهمنا انه ومع ذاك التعاطف الكبير الذي لقيته الصورتان فهناك ما يمكن ان يتبدل ويضع حدا للألم السوري، لكن سرعان ما بهت أثرهما واستمرت سورية تصدر لنا الموت بصوره الكثيرة.
 

لا شك أن البشر يتأثرون بشكل أكبر حين تنعكس في مخيلتهم صورة اولادهم في المشاهد الحقيقية التي تردهم وهذا ما حدث مع صورتي ايلان وعمران بحيث تتيح الصورتان لمن يشاهدهما مساحة ما لأن يتعاطف ويتخيل. ليس هناك طفل يستحق أن تجرفه المياه غريقا على الشاطئ كإيلان ولا أن يكون وحيدا خائفا ومجروحا كعمران. وهنا يبدو كم من المستحيل فهم حجم ودرجة المعاناة السورية وعجز أي صورة عن فعل ذلك.

فلو كان ذلك ممكنا  لحدث شيئ لتنتهي الحرب الان.

 

كما كان متوقعاً، ذوى الاهتمام سريعاً بعد أن تشبّع العالم بصور الطفل الحلبي عمران وها نحن عدنا للعيش على وقع موت وجوع وقتل وصور ومشاهد وأفلام نتأثر بها ونشاركها على صفحات فايسبوك لنطمئن ضمائرنا بأننا فعلنا شيئا ثم نتابع حياتنا.

إن كان "كينيث جاريكيه" يعزي نفسه بأن صورة الجندي العراقي كان يمكن لها أن تبدل مسار الحرب لربما عليه أن ينظر مليا الى صور سورية التي لم تفعل سوى أن كرست عجز العالم حيالها.

المشاركة
عرض المزيد