مقالات بدايات

الضحية السورية أو كيف نعلم العالم الندم؟

02/08/2016

إن فيض الصور المؤلمة التي خرجت من سوريا باتت مشهدا مألوفا للعين المراقبة، وبات العالم أمام هذه  المشاهد المرعبة يريد أن يشيح بنظره عن القضية كلها

الكاتب: جون ريتش

المصوّر: Lukasz Dejnarowicz/ZUMA Press/Newscom


في الثاني من تموز 2016 مات إيلي فيزل. اليهودي الروماني الأميركي، والكاتب والأستاذ والناشط السياسي. إيلي فيزل واحد من الناجين من محارق النازية وحامل نوبل للسلام. والأرجح أن الأقدار شاءت أن يعيش فيزل ليشهد مرة أخرى في حياة واحدة محرقة مماثلة للتي نجا منها.
تذكر إيلي فيزل اليوم يكاد يكون أمرا نادرا. ذكرنا الرجل الذي مات في العام 2016، حين مات أن ثمة أحداث جرت من قبل، هائلة وخطيرة وفي وسعها أن تقترب مما يجري اليوم.

 ثمة فوارق كثيرة بين الزمنين. الزمن الذي سبق تحول اليهود شعبا رغما عنهم، بمعنى من المعاني، والزمن الراهن الذي حول شعبا إلى يهود هذا القرن. منفيون ومقتولون وملاحقون ويحاسبون بقسوة على نجاتهم من المذبحة.
 
نشر إيلي فيزل كتابه "ليالي" عام 1960. أي بعد نحو خمسة عشر عاما على انتهاءالحرب العالمية الثانية. ورغم مرور الزمن على الفاجعة، بدا الكتاب نابضا وحيا، ويصعب تكذيب حرف فيه. ثم إن قارئ فيزل في ليالي، سينظر، حتما، إلى الأمور بعين فيزل. لن يلومه على الخيارات التي كانت متاحة أمامه ولم يخترها. هل كان بوسعه أن يثور على سجانيه ويقضي ميتا برصاص الجنود الألمان؟ كان يمكنه أن يفعل ذلك، ولم نكن لنلومه أيضا. لكنه اختار طريقا أخرى، ولا نستطيع أن نلومه. لو أن شخصا آخر قرر الانتحار الصاخب احتجاجا على ما يتعرض له من قبل السجانين، وثمة أشخاص كثيرون في تلك الحقبة السوداء من تاريخ البشرية اتخذوا مثل هذا القرار، لكنا نحن القراء، الشهود، تفهمنا قراره، وأنصفناه. وأدركنا أن الخسارة المتمثلة بموته لا تعدلها أي خسارة أخرى.
فيزل لم يكن بطلا، كان مجرد إنسان. لهذا ربما يجدر بنا أن نرفعه مرة أخرى إلى مصاف الكبار. هذا الرجل، وكثيرون غيره، أثبت أن الأبطال والشهداء قليلو صبر وحكمة، وأنهم دوما يختارون الحل الأسهل. حين تكون الحياة أصعب من الموت.

في كتاب ليالي، يُحمل فيزل المراهق مع عائلته المكونة من أب وأم وشقيقة إلى مركز تجميع مع الآلاف غيره من اليهود. بعد حين يتم تفريق الإناث عن الذكور. يحزن لوداع أمه وأخته طبعا، لكنه منذ اللحظة التي ينفصل عنهما مع أبيه لا يعود إلى ذكرهما أبدا. كان يجدر بالمراهق أن يسعى ليبقى على قيد الحياة. ولا وقت للتشبث بالحياة السابقة التي كانت له. فلتذهب أمه وأخته إلى مصيرهما، وليذهب هو وأبوه إلى المجهول الذي يحتاجان أن يقطعا لياليه القارسة حتى ينجوا. لم ينج الأب. لكن فيزل الابن نجا وكتب. هل يمكننا أن نصمه بالجبن؟ يمكننا ذلك. لكن من قال أن الشجاعة قيمة يجب الاعتداد بها؟  

فيزل نفسه لم يتورع عن دعم الاستيطان اليهودي في فلسطين الذي يعني حكما طرد الفلسطينيين من مدنهم وقراهم ومصادرة أرزاقهم. لا تكفي المعاناة الكبرى التي عاشها، ليتطهر تماما من الرغبة بالانتقام، أو الإيمان بحقه في الأمان والطمأنينة على حساب بشر آخرين، بصرف النظر عن هوياتهم أو تواريخهم. هول المعاناة التي تعرض لها اليهود، من شأنها أن تنتج دعاة انتقام متحمسين، يدورون في ترنيمة الكراهية نفسها التي قتلتهم. الفلسطينيون الذين لم تكن لهم يد في ما تعرض له اليهود في أوروبا أصبحوا ضحية هؤلاء الأخيرين. لأن زمن الفواجع يجعل من بعض الناجين من أتونها أعداء لكل من هم خارج حلقتهم الضيقة.

عام 1943 كتبت حنة أرنت الفيلسوفة الألمانية (اليهودية) اللاجئة إلى أميركا مقالتها الشهيرة "نحن لاجئون كتاب في المنفى". أرنت تؤكد في هذه المقالة، أن كل الذين سعوا للخروج من ألمانيا أو أوروبا في زمن صعود النازية، لم يسعوا إلى ذلك بإرادتهم الحرة. كانوا يظنون، قبل أن تستعر الحرب وتظهر كل فظائعها، أنهم إنما تركوا تلك البلاد سعيا إلى حياة أفضل، كمهاجرين. لكن فظائع الحرب وويلاتها جعلت من كل الذين هاجروا لا يهاجرون من حياة بائسة إلى حياة يريدون لها أن تكون أفضل. أنهم ببساطة لاجئون، لأن ليس ثمة حياة يمكن معاينتها من حيث أتوا. لم يهاجروا بإرادتهم، بل هاجروا لأن الأرض نفسها التي هاجروا منها باتت ميتة.

مقالة أرنت تتسم بالشجاعة. شجاعة أن تقبل في منفاك الوصمة التي وصمك بها خصمك وقاتلك. وتجعلها أساس هويتك الجديدة. نحن لاجئون فلسطينيون، أو نحن يهود حقبة الكراهية في أوروبا، أو نحن مسيحيو الأمبراطورية الرومانية قبل تنصيرها، أو نحن سوريو هذا العالم. كلنا موصومون بهذه الوصمة التي صنعها لنا القاتل، وعلينا أن نصنع من هذه الوصمة مستقبلا للبشرية جمعاء. اللاجئ السوري اليوم، شاء أم أبى، مجبر على صناعة مستقبل البشرية. ليس لأنه بطل وشجاع بل لأن العالم، الذي يغلي بالكراهية والحقد، لن يسمح له أصلا أن يكون كائنا آخر. اللاجئ السوري، هو الذي، شاء أم أبى، سيضطر لتحمل عنصرية مضيفين في ما يعتقدون أنه بلادهم، يرون فيه مهددا لأمنهم وتوازنهم الديموغرافي (كذا) وأرزاقهم. وعليه أن يحمل هذا الصليب كعار على جبينه. لأن كل دروس التاريخ والجغرافيا وكل دروس المنطق والحكمة لن تغير في ما يعتقده هؤلاء الذين يحسبون أنهم بممارسة عنصريتهم على السوريين يستطيعون أن يقفلوا باب الطاعون الذي يجتاح العالم. ويعيشون في مأمن منه.

كل كلام التضامن مع السوريين مطلوب وضروري، لكن كل هذا الكلام لن يغير في واقع الحال كثيرا. يوما بعد يوم يزيد ثقل السوريين لاجئين وقتلى وجرحى ومعوزين على كاهل العالم أجمع، ويوما بعد يوم ستزداد رغبة العالم كله في التخلص من هذا العبء. وعلى السوريين أنفسهم سيقع عبء تغيير العالم مرة أخرى وتعليمه الندم.

دروس التاريخ تعلمنا أن مطحنة العظام التي تغذ سيرها إلى كل مكان ما زالت في بداية دورانها. ثمة غالبية عظمى من شعوب العالم يؤمنون أنهم يستطيعون إقامة جدران فصل مع المغاير والآخر. وأنهم يستطيعون بهذه الكراهية التي تنمو في كل مكان، حماية أنفسهم من المحرقة. هذا يفترض أن توسيع دائرة الخصوم سيكون مستشريا في السنوات المقبلة. الأوروبيون يخاصمون العرب، والفرس يخاصمون العرب والكرد، والمسيحيون يخاصمون المسلمين، إلى آخر ما هنالك من تقسيمات لا متناهية. لكننا أيضا وبموجب درس الكراهية نفسه، سنشهد خصومة بين البريطانيين والفرنسيين، وبين الألمان والإيطاليين، وبين العرب المسلمين والعرب غير المسلمين، وبين الكرد المسلمين والعرب المسلمين. ونذر هذه الترنيمة الشيطانية لم تعد خافية على أحد. لكن الثابت في هذا الجنون كله، أن ثمة ميدان واحد يتقاتل فيه الجميع. لو لم يكن ثمة سوريا موجودة، كيف كان بوسع فلاديمير بوتين أن يحارب الإرهاب؟ سوريا هي الجغرافيا المنذورة لتكون قربان كهنة الكراهية. لا يتورع فلاديمير بوتين عن الفخر بأن مبيعات طائراته الحربية تتزايد يوما بعد يوم لأنها أثبتت فعاليتها في سوريا. هذا ليس أقل من أفران الغاز أبدا. وطبعا ليس ثمة أحد معفي. كلما جرت حادثة في أي مكان من العالم، يجد الساسة أنفسهم مجبرين على الانتقام لضحايام بقتل مزيد من السوريين.

لهذا السبب الجوهري، لن يجد السوريون مفرا من تلبس دور الضحية. الهوية السورية اليوم تعادل في مخاطر الانتماء إليها أن يكون المرء مجبرا على حمل ثقل العالم كله على كتفيه. سيجد السوريون أنفسهم هدفا لاختبار فظاعات البشرية جمعاء. وسينجون من هذا الأتون المشتعل، ليثبتوا لهذه البشرية نفسها مرة أخرى، أن التضحية بأطفالهم ونسائهم ورجالهم وأرضهم وأرزاقهم سمحت للبشرية أن تعود إلى رشدها.

الأسباب السياسية والقانونية لكل هذا الفشل الذي تواجهه البشرية كثيرة ومتعددة. ويمكن، بل ربما يجدر بنا أن نتنكب عناء تعيينها وتفنيدها بأسرع وقت. لكن الملح في هذه اللحظة يتعلق بتموضع السوريين أنفسهم. أين وكيف سيحملون صليبهم؟ في وقت لن يجدوا فيه أحدا كبيلاطس يقول إنه بريء من دم هذا الصديق.
السوريون اليوم، بعد خمس سنوات على مذبحة مستمرة، يجهدون في أن يخفوا صورهم. لأن صورة السوري باتت مرادفة للموت على القوارع الجرداء، أو التيه في ملح البحار وصقيع الغابات. لكن كل هذه العذابات التي يعانيها السوريون، لم تمنع العالم من تجاهلهم بل وزيادة معاناتهم. الأرجح أن فيض الصور المؤلمة التي خرجت من سوريا باتت مشهدا مألوفا للعين المراقبة. الصورة السورية صنعت شكلا للموت والعذاب والبكاء، لم يكن العالم يستطيع بالخيال وحده تصويره أو تصوره. وبات العالم أمام فيض المشاهد المرعبة التي تخرج من سوريا يريد أن يشيح بنظره عن القضية كلها. يريد أن يعود عن حداثته إلى زمن الأنبياء، من خلال تغذية الظن بأن كل هذا العذاب ما كان لينزل بهؤلاء لولا أنهم يستحقونه. هكذا تحول كل قتيل إلى إرهابي، وكل مولود إلى مشروع منتقم وثائر، ويجدر قتله قبل أن ينتقم من هذا العالم. لقد تمت شيطنة كتلة هائلة من البشر، بحيث لم يعد ثمة من يتفكر لحظة في مصائرهم وهو يخطط لتحرير الرقة أو منبج أو حصار حلب.

هؤلاء الذين يعيشون هناك باتوا مستحقين للعيش في هذا المطهر. والأرجح أن الإصرار على تداول صورة السوري على هذا النحو البالغ القسوة، يهدف إلى أن يحشر السوريين جميعا في خانة من يتمنون الموت. الإصرار على واقع أن الذين نجوا هم لاجئون، هو إصرار على تذكير العالم بأن اللاجئ المهاجر يرغب في البقاء حيا. فيما تبدو النزعة المستشرية نحو إلزام اللاجئين بالعيش في معسكرات تشبه معسكرات التجميع، في فحواها وأصلها كما لو أنها نزوع نحو دفع السوريين خارج سوريا إلى الوقوع في موقع من يتمنى الموت.

حنة أرنت كتبت بوصفها لاجئة. لكن كتابا كبارا ومفكرين عظماء لم يجدوا مفرا من إنهاء حيواتهم بعد لجوئهم ودخولهم في تيه منتصف القرن العشرين. ستيفان زفايج لجأ إلى الولايات المتحدة ومنها إلى البرازيل وهناك قضى منتحرا مع زوجته، لأن العالم لم يعد كما كان من قبل. ولأنه كتب ما كتبه، وفي ظنه أن رواية الحقائق تكفي لردم هوة الكراهية. وعلى نحو ما نجت أرنت وكتبت، والأرجح أنها بكتابتها أعادت ترميم جسد زفايج في قبره وسمحت لوالتر بنيامين المنتحر على الحدود الأسبانية الفرنسية أن يتبوأ موقعه الذي يستحق.  

 

المشاركة
عرض المزيد