مقالات بدايات

تصوير اللاجئين 1: العالم يلتقط الهاربين في جنازته

04/05/2016

يشير موقع إيلان إلى موقع الهاربين من "سوريا الأسد"، فهم يقعون في أرض وسط بين نظام الأبد  ودولة الموت من جهة، ونظام العالم من جهة أخرى

الكاتب: روجيه عوطة

المصوّر: أنابيل غيريرو

 

تنطوي الصورة، التي ظهر إيلان شنو فيها، على مفارقة شديدة وبائنة، ومفادها سؤال بعينه: من أي جهة جاء الطفل إلى الشاطئ؟ فإذا كان قد أتى من البحر، فجثته تنفي ذلك، لأنها تتجه نحو البحر إياه، وإذا كان قد قدم من البر، فثيابه مبللة، ونافل التذكير بأن مرتديها قضى غريقاً.

لقد جاء الطفل، وفي الوقت نفسه، من الجهتين، إذ ركب البر والبحر، ووقع في الوسط بينهما، ولأن جسده، بعد ذلك، رغب في الماء، بدا كأن الجانبين يحضران خلفه، بحيث تخطاهما، وعندما كان يمضي في خارجهما، داهمه الموت. لقد كان البر من ورائه، والبحر أيضاً، أما، الذي برز بأمواجه أمامه فهو الخارج، الذي يقع الهاربون في وسطه، ويواصلون الرواح إليه.

يشير موقع إيلان إلى موقع الهاربين من "سوريا الأسد"، فهم يقعون في أرض وسط بين نظام الأبد  ودولة الموت من جهة، ونظام العالم من جهة أخرى. غير أن ذلك لا يعني أن أرضهم  تستوي بعد أرض البعث وقبل أرض العالم، بل أنها تستقر بينهما وبعدهما، أي أنها الوسط  والخارج على حد سواء. وهذا الوسط، وبحسب تعريف نيوتن له، هو بمثابة مدى سائلة، وفي إثره، يصير أي نطاق من نطاقات الهاربين مائياً. على هذا النحو، يركب الهاربون البر والبحر، ينسكبون، يجتمعون، يتوزعون، ينصبون، وثمة في أفعالهم هذه، ضرب من الإنبجاس، الذي يجعل من حركتهم حركةً حادة ومبارحة.

 

صميم الإعدام وداخل التمثيل

 

يتعامل نظام الأبد مع خارج الهاربين، أو وسطهم، كأنه معدوم، فهو بالكاد يقر بأن حوله ليس داخله، فمن البديهي ألا يعتقد بوجود خارج ما بعد هذا الحول. أما، نظام العالم، فبدوره، يتعامل مع خارج الهاربين كأنه ليس بخارج على الإطلاق، بل أنه مساحة تفصله عن دولة البعث، وتحمل المقيم فيها اليه. نظام الأبد يقول للهاربين:"لا مجال لكم، وأنتم لستم بموجودين"، ونظام العالم يقول لهم:"لم تصلوا الى الخارج بعد، وكلما تقدمتم منه، تدخلون إليّ، فأنا هو الخارج".

الأبد والعالم يلغيان خارج الهاربين، الأول عبر إعدامه، والثاني عبر تمثيل تصور عنه. الإعدام ليس هو التمثيل، لكنه، كامن فيه، كما أن التمثيل ليس هو الإعدام، لكنه، يدور حوله،  تماماً، مثلما يكمن نظام البعث في صميم نظام العالم، أي في أقصى داخله، ومثلما يدور نظام العالم حول البعث، أي في أقصى خارجه.

يجد النظام العالمي أن وسط  الهاربين، أو خارجهم،  يقع بعد نظام الأبد وقبله، تالياً، يمنعه تصوره عن هذا الوسط من الدوران حول صميمه البعثي، وبالفعل نفسه، يقربه منه. على حاله هذه، عمد العالم إلى التعاطي مع الهاربين، مرةً، بغض الطرف عن قتلهم وغرقهم، وبذلك، يوشك على أن يكون صميمه، وعلى أن ينطق بعبارته:"أنتم لستم بموجودين"، ومرةً، باستقبالهم، وتقديم نفسه لهم على أنه خارجهم، وبذلك، يحاول الدوران حول صميمه من جديد. في الحالة الأولى، يستدخل خارج الهاربين بإعدامه والتقاط سكانه كجثث ميتة، وفي الحالة الثانية، يستدخله عبر تمثيله، والتقاط سكانه كجثث حية.

 

من هنا، وُصِفت صورة إيلان بأنها "صفعت ضمير العالم وهزته"، فعندما شاهدها النظام العالمي، انتابته الصدمة حيالها نتيجة تظهيرها لموقع الهاربين بوضوح تام، ونتيجة بيانه فيها كأرض موجودة قبل موقعهم. فهناك طفل مات غرقاً، لكنه، ومع ذلك، ظل متجهاً بجسده نحو البحر، كما لو أنه غير آبه بكل ما يحضر خلفه، أي الأبد والموت والعالم، فهو، وعلى الرغم من منيته، لم يقفل عائداً، كما لو أن هلاكه لم يتمكن منه. لقد كان إيلان في صورته قادراً على حتفه، كان حياً للغاية، وبالتالي، ارتطم العالم به، وقرر ابتلاعه.

ومن أجل ذلك، حول صورة إيلان إلى "رمز اللاجئين"، والرمز، في هذا السياق، هو علامة على تشييد علاقة بين طرفين بواسطة دلالة ما، بحيث أن العالم انتظر تلك الصورة لكي يتنبه إلى وجود الهاربين، وقد سعى عبرها إلى انشاء صلة بهم بالإنطلاق مما شاهده فيها، من تأويله لها. لكنه، بدل أن يقيم علاقة معهم، أقام علاقة مع ذاته، فحين شاهدهم في لحظة قدرتهم على الموت، غيرها إلى لحظة موتهم، وعندما شاهدهم في لحظة هربهم، غيرها إلى لحظة من الإلتجاء الخالص إليه، ولما شاهدهم في لحظة الخارج، غيرها إلى لحظته. من الممكن اختزال أفعاله تلك بعبارةٍ، نطق بها مراراً وتكراراً:"الصورة خاطبت الجبن فينا"، تالياً، أنشأ العالم، ومن خلال صورة إيلان، علاقة مع داخله، بحيث أنه تمسك به، أو بالأحرى انقبض إليه، ثم، قرر توسيعه وجعله منبسطاً في خارجه. لم ينشئ العالم علاقة مع إيلان، مع الهاربين، بل أنه خاف على داخله منهم، ومن هذا الداخل، أطل عليهم كي يلتقطهم، وكلما كان يمارس التقاطه لهم، كان يتشبث بذاته أكثر.

 

القاع كذروة فوقية

 

لقد صورت نيلوفير دمير إيلان، لكن، النظام العالمي هو الذي التقطه. ثمة اختلاف بين الفعلين، فالإلتقاط ينم عن رغبة في القبض على الهارب، وتوقيف حركة المبارحة التي يمارسها على حركة الإلتجاء، أي اختزال المغادرة باللجوء الذي ينم عن رعب مستطير. أما، التصوير، فتنتجه رغبة في حث الهارب على ترتيب حركته، وتكثيفها، وإبعادها عن أي فخ، قد تسقط فيه.العالم اختار الإلتقاط وجعله تصويرياً، وبذلك، وطد تصوره عن الهاربين، واحتجزهم في الصورة التي ألفها عنهم.

على أن صورة إيلان كان الصورة-الذروة، بحيث أن النظام العالمي إستند إلى داخله كي يلتقطها، ولكي يقدم نفسه للهاربين على أساس أنه خارجهم. ولهذه الصورة-الذروة مقلب آخر هو الصورة-القاع، التي من الممكن التفرج عليها في هذا الفيديو، حيث تمعن الكاميرا في التقاط الهاربين بالإستناد إلى صميم العالم، أي نظام البعث. إذ تصورهم من فوق كأنهم قطيع من البهائم الفالتة، ولما تريد أن تنتقل من مشهد إلى آخر، تبدو كأنها تقتل محتوى الأول كي تذهب إلى الثاني. الهاربون في هذا الفيديو هم جماعة من البرابرة، وجماعة من المرعبين، وجماعة من المتطرفين، وبالتالي، لا بد من التقاطهم من الأعلى، على شكل حربي، وعلى سبيل الإنتهاء منهم.

 

ليس هناك فصل بين إلتقاط العالم لصورة إيلان وإلتقاطه للهاربين في هذا الفيديو، وانعدام الفصل هذا تشير إليه العلاقة بين الداخل والصميم. كما لو أن النظام العالمي يتعامل مع الهاربين على منوال واحد، أي على منوال الإلتقاط، وفقاً لمعادلتين: عندما يريد استدخالهم، يلتقطهم كأنه خارجهم، ولذلك، يستند إلى داخله، وعندما يريد إبعادهم، يلتقطهم كأنه فوقهم، ولذلك، يرتكز على صميمه. في الصورة-الذروة، يصطدم بحركة الهاربين، فيسعى إلى ضبطها عبر استبطانها، وفي الصورة-القاع، يرتطم بحركة الهاربين، فيسعى إلى السيطرة عليها من خلال التخلص منها. في الصورة-الذروة، يرى في الهاربين  "أفراد"  لا حول ولا قوة لهم، وفي الصورة-القاع، يرى فيهم "جماعات" لا عقال ولا عقل لهم، في الصورة-الذروة، يحتجزهم في تصوره عنهم، وفي الصورة-القاع، لا يحبسهم بل يبيدهم. هذا ما تجمعه بعض صور الهاربين، التي لم تنتشر بالإنطلاق مما تحتويه، بل بإرجاعها إلى صور أخرى، يظهر مقاتلون من "داعش" فيها. بالتالي، يجري الحديث عن كون هذا الهارب، الذي يبدو لاجئاً في  صورة ما، وبالتالي، هو موضوع للإستدخال العالمي، هو نفسه، الذي يبدو جهادياً إسلامياً في صورة غيرها، وبالتالي، هو موضوع للإستئصال العالمي، ولا بد من القبض عليه والتخلص منه.

 

دوام الوحشة وظرفها

 

لا يكتفي النظام العالمي بتأليف صورة اللاجئين من خلال إحتكار الخارج وتمثيله، بل أنه يغير الوسط، الذي يقعون فيه، إلى وسط آخر، هو قريب من تعريف لامارك، ثم، أوغست كونت، له. إذ لا يستطيع العالم أن ينظر ذلك الوسط، كخارج، كأرض لحركة الهاربين وحيويتهم، بل يحدق فيه كمجموعة من الظروف التي تحيط بالعائش فيها، والتي تترك آثارها عليه. على هذا الأساس، يمضي في إلتقاط الهاربين كساقطين في الوحشة والإبتئاس، كما لو أنهم يسيرون في جنازة ذواتهم على الدوام، وليس في جنازة الحاضر ورائهم، أي الأبد وحوله العالمي أيضاً.

 

لقد ذاعت صورة ليث الماجد على أساس أنها صورة اللاجئ الذي يبكي فرحاً في إثر وصوله إلى العالم. فالأخير هو مصدر فرحه، وطريقه إلى الإنتهاء من ظروفه الصعبة. لكن، مفارقة الصورة الوجهية تشير إلى أن الماجد لم يبكِ فرحاً لأنه بلغ العالم، مع التذكير بأن الشاطئ ليس هو العالم، بل بكى فرحاً لأنه رأى ما لا طاقة له عليه: أحس بأن الموت، الذي لطالما كان قريباً منه على طول هربه، ظهر أمامه، وحين يظهر الموت، فهذا يعني أنه في أول تبدده. لقد حدس الهارب ظهور الموت قدّامه، بعد الشاطئ، ولهذا السبب، أخفى وجه إبنه، أما، إبنته، فمن تلقائها، أعرضت النظر عن مقابلها، واتجهت به إلى البحر. كان الموت آتياً، وبكل وضوحه، من جهة اليابسة، من جهة العالم، ذلك، بعد أن هزمته الحياة، فظل مبهماً، في جهة الماء.

 

بعطف صورة الماجد على تغيير النظام العالمي لمعنى الوسط، واختزاله بالظروف المحيطة، يبدو هذا النظام كأنه يحتكر فرح الهاربين بعد أن يعتقلهم في صورة الحزانى الدائمين، وذلك، حتى لو ظهروا فيها ضاحكين، إذ أن فرحهم هو، وباستمرار، عقبة في طريقهم إلى الحزن. فالعالم يلتقطهم بالتركيز على ظروفهم الممثلة بوجوههم المتكدرة، ويواصل، بذلك، التأكد من كونها ظروف صعبة وشاقة لكي يجد في ذاته مصدر النعمة السهلة والإنشراح اليسير. فعلى الهاربين أن ينفوا أنفسهم على سبيل إثباته، وعليهم أن يكتربوا على سبيل إفراحه، وعليهم أن يعلقوا بشقائهم وعذابهم على سبيل تعليقه أمامهم كمبعث الخير المطلق. ليس صحيحاً أن العالم يساعد الهاربين بلا مقابل، بالمجان، ليس صحيحاً أنه يعطيهم كل شيء ولا يعطونه أي شيء، بل يكاد الواقع يقول العكس: النظام العالمي يأخذ من السوريين حياتهم، ويعطيهم تمثيله المميت لها، يأخذ خارجهم، ويعطيهم ذاته، يأخذ وسطهم، ويعطيهم ظروفه، يأخذ سبيلهم إلى البهجة، الذي قد يشعرون عليه بالوحشة، ويعطيهم غبطته التعيسة، التي تضعهم على طريق مأتمهم الخالد.

 

وبهذه الطريقة، يخاطب النظام العالمي مواطنيه:"أنظروا إلى الذين ينتظرون على حدود بلدانكم، هم يريدون أن يصبحوا على ظروفكم، أن يصيروا مثلكم"، وحين ينظر هؤلاء إلى الهاربين، يستعملون عينيه. فإما يستخدمون عينه المرتبطة بصميمه المؤبِد، البعثي، فيذهبون إلى حد المطالبة بمطاردة واعتقال أي لاجئ، وذلك، بعد أن يشككوا في ظروفه الصعبة، كما جاء في هذه الصورة التي انتشرت بغاية الإستفهام عن كيفية تصديق عوز اللاجئين في حين أنهم يمتلكون هواتف ذكية. وإما يستخدمون عينه المرتبطة بداخله، بتمثيله للخارج، فيسرون بأنهم، وأخيراً،  تخصلوا من الفار الذي يكمن فيهم، والذي لا يقدر على الخروج منهم وإخراجهم، بحيث أنهم شاهدوه في مقابلهم، وعلى حدودهم، وهاهم يثبتون لأنفسهم بأنهم ليسوا بلاجئين.

إلا أن في الحالتين، حالة التقاط الهاربين من أجل إعدامهم، وحالة التقاطهم من أجل مشاهدتهم، يستمر الناظرون في مكوثهم داخل نظام عالمهم وصميمه، متمسكين به على اعتقاد بأنه معمل الحياة. فأقصى ما يمكن لهذا النظام أن يفعله حيال الهاربين هو التكلم مع سكانه عبر صورهم، وجعلهم يقتنعون بضرورته أكثر فأكثر، وذلك، كي يسكنوا إلى كونهم لن يصيروا لاجئين.

 

طرحت الفنانة أنابيل غيريرو سؤالاً عن سُبل تصوير اللاجئين بلا رصد هوياتهم وتعيين قسماتهم الشخصية، وبدون أن تصبح الكاميرا أمامهم شبيهة بالعدسات البوليسية التي تظّهر بورتريهاتهم في مراكز الأمن الحدودية وغيرها. سؤال غيريرو في منتهى الضرورة، ومن الممكن إطالته حتى ينتج مشكلاته: ما هي سبل تصوير الهاربين بلا التقاطهم، إبانة حركتهم في مفارقاتها، إفلاتها من أي نظام قد يحتجزها في داخله المميت لها أو يعدمها بدورانه حول صميمه المؤبد؟ كيف من الممكن الدفاع عن خارجهم بلا تحويله إلى العالم، والدفاع عن وسطهم بلا تحويله إلى محيط من الظروف؟

وجد الفوتوغراف سامويل غراتاكاب أن الطريقة الأفضل لتصوير الهاربين هو استخدام الكاميرا بغاية رسم الخرائط لهم، بحيث يغدو التصوير صناعةً لمجموعة من التضاريس التي تتيح لهم الحركة ولا توقفها.  غيريرو أوضحت طريقة غراتاكاب، فلم تصور وجوه الهاربين، بل صورت الخطوط المحفورة في أكفهم، قالت أن هذه الخطوط هي هوياتهم التي لا تحددهم، والتي تشير إلى أنهم موجودين، ولكن، وفي الوقت نفسه، لا يمكن السيطرة عليهم بتوحيدهم أو بتمييزهم. ثم، أن تلك الخطوط هي نفسها التي يعمدون إلى شقها والسير فيها، ذلك، أنهم، هم السوريون، يضعون حياتهم على أكفهم، على أكف قدرهم وقدرتهم

المشاركة
عرض المزيد