مقالات بدايات

الزمن السينمائي ـ الثورة ـ الحرب

12/02/2016

الكاميرا منحتني القدرة على ترميم الزمن وإعادة المعنى له. إذ أن السينما هي الملاذ الوحيد الذي من خلاله نستطيع ترميم المكان واعادة خلقه وفق اللقطة والكادر والسرد البصري

الكاتب: عروة المقداد

المصوّر: عروة المقداد

 

لا بد أنني مدين للتكنولوجيا التي منحتني القدرة على استخدام كاميرا ديجيتال. الكاميرا التي تقلّص حجمي كما لو أنها اكسير يسهّل انتقالي بين العوالم الداخلية للإنسان وتعريته في عالم سحري يبدو فيه كل شيئ معقول ولا معقول. علبة الزمن التي تنجو من أعتى الصواريخ والطائرات، وتستطيع حفظ ما لا نستطيع حفظه. منحتني تلك الآلة المغوية قدرة استثنائية لعبور الحدود والجدران الدفاعية التي يضعها الإنسان في مواجهة الإنسان. وبهذا المعنى ربما تكون الكاميرا الباحث النفسي الأخطر في العالم.

لم أستطع قبل الثورة التمييز بين مفهومين فلسفيين للزمن الذي نعيشه: "الزمن السينمائي" و"الزمن التلفزيوني" إذا صح التعبير، على اعتبار أنهما الوسيلتين الأكثر تأثيراً واستخداماً في حياتنا اليومية. أقصد "بالزمن السينمائي"، ذلك المفهوم الذي ينظم الزمن بطريقة خلّاقة. إن منطق آلة التصوير يشبه منطق العين المجردة، والزمن السينمائي هو إعادة إنتاج الحياة وخلق الزمن ليكون ارتداد أو صدى لصورنا الداخلية، نستطيع من خلاله التعرف أكثر على ذواتنا.

 

ربما يسعني القول بطريقة أخرى أنه لا يمكننا  تجريد الزمان والمكان (فيزيائياً)* عن "المعنى". فالمعنى يعطي الحياة الانسانية تفردها. إننا نبحث عن "المعنى" ليتحول الزمن فلسفياً إلى مفهوم إنساني بحت.  وبهذا فإن "الزمن الخلّاق" هو ذلك الزمن المبني على جدليات فكرية وفلسفية. فنحن نكثف الزمن من خلال نتاجنا الفكري والمادي، الذي يستطيع أن يمنح الحياة معناً عميقاً في كل ثانية نمضيها على هذا الكوكب. لذلك كانت السينما بمثابة المرآة لمفهوم الزمن فلسفياً. ولنستطيع من ناحية أخرى توصيفه إذا أمكننا القول: بأن الزمن الإنساني الخلاق، هو زمن سينمائي بإمتياز.

 

لقد كان مفهوم الزمن بالنسبة لي قبل الثورة مسألة فيزيائية شائكة غير مرتبطة بالواقع، افتراضات علمية تحتمل الكثير من التفاسير. إذ أن الحياة في سورية كانت مرتبطة بإيقاع ثابت ذو وجه واحد، سيطر فيه التلفزيون على الحياة الثقافية والإجتماعية. وعكس صورة الدكتاتور وفلسفته في جعل المجتمع نسخ متكررة. لقد طُوع التلفزيون ليكون أداة إديولوجية، تشبه التنويم المغناطيسي، تبث من خلاله برامج ومسلسلات تخدر وعينا وتقتله. فالمسلسلات التي أغدقها التلفزيون كانت مليئة "بالهذر الدرامي" الذي يقتل الزمن وإدراكنا له. كما أن البرامج على اختلافها " الترفيهية والتعليمية" كانت بدائية الطرح تفتقر إلى الخبرة ومغرقة بالإسفاف. دعمت السلطة الدكتاتورية "الدراما التلفزيونية" بقوة لادراكها أن "الايقاع التلفزيوني" لديه القدرة على سجن الانسان في علبة فارغة. يزجي أحلامه ويسقطها على البرامج التي تعرض لتدجينه وتقلب مفهوم الزمن لديه، ليتحول إلى كائن مخلخل الاحساس بالزمن، ضامر من الناحية الإجتماعية والثقافية والسياسية.

 

لا يمكننا عزل تطور الدراما التلفزيونية في سورية عن مثيلاتها في العالم، ولكنها في سورية عُززت ودُعمت بالتزامن مع تراجع دور دُور السينما التي كانت مزدهرة في مختلف المدن السورية. شهدت السينما السورية انكفاءً شاملاً لتغلق أغلب دور السينما في مختلف المحافظات ويقتصر بعضها على عرض الاْفلام التجارية.

 

الثورة جعلت مفهوم الزمن يتغير، إذ لم يعد مجرد توقيت فارغ نسعى لملئه بتفاصيل الحياة اليومية المستنسخة، التي لا تدفع نحو التفكير والتأمل والنقاش الإجتماعي والسياسي. الثورة جعلتنا نفكر بالزمن على أنه مسألة يجب تنظيمها بطريقة خلاقة ابتداءً من حالة النقاش الاجتماعي والسياسي التي سادت في بداية الثورة وصولا إلى المظاهرات وتنظيمها وتصويرها ومن ثم محاولة انتاجها سينمائياً. إنه المعنى الذي طرأ على حياتنا، المعنى الذي يخلق الروابط الاجتماعية والانسانية.

 

إن الرغبة الكبيرة لدى الكثير من الشباب في صناعة الأفلام الوثائقية والدرامية والتجريبية هي الدليل على تغيير مفهوم الزمن لديهم، فالسينما اجتاحت المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، وبدت الوسيلة الوحيدة القادرة على عكس أحلامهم وطموحاتهم، وتبدّت وظيفة السينما الحقيقية التي غابت لفترات طويلة. ربما تبدو هذه النقطة إشكالية فالإنتاج البصري الذي أفرزته الثورة، قلة منه نستطيع تصنيفه سينمائياً، وربما تتطلب هذه الفرضية المزيد من الوقت والنقاش لإثباتها، ولكن بكل تأكيد النقاش الذي ساد في الأوساط الشبابية حول السينما وضرورتها طيلة السنوات الماضية وتقدير صانعيها من الأوساط الشعبية التي احتضنت الكثير منهم، دلالة على تغير مفهوم الزمن لديهم، فالمسألة باتت تتعلق بكثافة اللحظات والمشاعر التي كانوا يعيشونها، حيث أدركوا بطريقة واعية أو غير واعية أن السينما وحدها قادرة على نقل كثافة الزمن وقيمة "المعنى".

 

لم تعد السينما نخبوية، لقد أعيد إنتاج السينما والدفع نحوها من القاع (في المفهوم السائد). لقد كان عماد أهم الأفلام السينمائية (الوثائقية) التي نالت جوائز هم شباب من بيئات فقيرة متوسطة. حاول الكثير منهم التصدي لمفهوم الصورة، وصناعة سينما شبابية تتناول منظورهم الجديد للواقع والزمن والمعنى. إلا أن المسألة لم تكن بتلك البساطة، فمع انكفاء الثورة وتحولها إلى حرب، استطاعت الكثير من الجهات التي عادت بوجه آخر للدكتاتورية، سلب هذه المحاولات وتحجيمها لتعود وتحوم في الزمن التلفزيوني والفضاء الافتراضي.

 

 

 

مفهوم الزمن السينمائي في الحرب

 

لا بد أن الأفكار تحمل شحنة فيزيائية في طياتها، وهي مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالمكان. وفيما دمر المكان من خلال الحرب، بعد أن أعيد ابتكاره من خلال الثورة (خلخلة الزمن المضبوط الذي مارسه النظام من خلال وسائل متعددة ومنها التلفزيون). كانت الحرب تدمر الزمن الجديد الذي أدركته.

 

الكاميرا منحتني القدرة على ترميم الزمن وإعادة المعنى له. إذ أن السينما هي الملاذ الوحيد الذي من خلاله نستطيع ترميم المكان واعادة خلقه وفق اللقطة والكادر والسرد البصري. المادة الفيلمية تصبح أحد الملاجئ القليلة التي من الممكن أن ننقل إليها الزمن الخلاق الذي يحاول النظام أن يسلبه من خلال الحرب الوسيلة الأكثر تدميراً لمفهومي "الزمن" و"المعنى".

قرب تلة مطلة على قرى استباحتها داعش قال لي أحد أهالي القرية: "لقد توقف الزمن لدينا، لم نعد نشعر بتدفقه منذ الفترة التي اضطربت فيها بوصلتنا نحو الاحساس البسيط بالحياة. ما تفعله الكاميرا، على الرغم من عدم درايتنا بها، أنها تستعيد ذلك الزمن البسيط الذي كنا نستشعره في دواخلنا. نتفرج على ذاتنا في الأفلام القليلة التي نستطيع الحصول عليها فندرك أننا ما زلنا أحياء. أو أنه لدينا قصة سوف تحكى ذات يوم وتعاد. ستلاحظ أننا هنا نحب صانعي الأفلام لسبب ما. الكثير من الشباب دخل المناطق "المحررة" كنا سعداء بما يقومون به. وكنا نترقب اللحظة التي سوف نظهر فيها على الشاشة أو نسمع أن أحد ما قد شاهدنا في الطرف الآخر من العالم. وكنا نحلم أن تتحول قصصنا لأفلام تمثيلية. وأن نشاهد بعد خمسين سنة فيلم يروي ما حدث، فصول مآساتنا الكثيرة. وقصص البطولة الغير منتهية."

 

الضباب يحجب المزارع القليلة التي تفصلنا عن داعش. ليس ثمة فرق في الجغرافية، ولكنه فرق في الزمن. الزمن الذي تكثفه آلة القتل ليبدو أنه قادم من فيلم دموي عنيف. إن داعش تحاول إستلاب الزمن السينمائي وتدمير المعنى، التشويق العالي المليئ بالعنف، كما لو أنها سلسلة مشاهد مقتطفة من فيلم طويل من انتاج "هوليود" يجعل منا متواطئين بالمتعة ومنتظرين لها. انها تحاول أن تحطم الزمن السينمائي لتكسر إرادة الحياة التي نحيلها نحو الأفلام. ربما يبدو صراع أزمنة تتوازى مع صراع الحرب التي تطحن يومياتنا وتفاصيل حياتنا وتبعثر منا الزمن. تشوه داعش القصة فيما نحاول سردها. تجتزء البداية والنهاية وتتركنا أمام حدث بطيئ مغرق في القتامة. تلتقي داعش في هذا المفصل مع النظام، إنها ترجمة حرفية لتحطيم الزمن الذي مارسه النظام طيلة السنوات الماضية. ولتستطع أن تحطم "الزمن" و"المعنى" تستخدم داعش الفضاء الافتراضي "اليوتوب" الذي يتواطئ في عرض تلك السلسلة الطويلة من المشاهد التي تفقد بوصلتنا نحو الزمن ويعيدنا نحو نقطة الصفر التي نكون فيها مخدرين معزولين نفسياً في حقل من الخوف يخيم بظلاله علينا. يتحطم الزمن فيتحطم المعنى أمام تلك القسوى المفرطة التي نشاهدها ونختبرها كل يوم.

 

 هكذا نغدو محاطين بزمنين مجوفين "الزمن التلفزيوني" و"الزمن الافتراضي" الذي يسهل عملية السيطرة من خلال الخوف. فيما تغدو السينما ترفاً ورفاهية ومجردة من عمق زمنها السينمائي. وربما خلال السنوات الخمس المنصرمة، تبدو لي  كلمة السينما هي المعادل الموضوعي لكلمة الثورة، حيث كلاهما يحتفيان ويكثفان الزمن وكلاهما يصبغ "المعنى" على الحياة الإنسانية التي يحاول النظام وربما الأنظمة تجريدنا وسلبها منا.

 

 

*الزمن: وفقاً للنظرية النسبية هو بعد رابع يدمج مع الأبعاد الثلاث، وقد دمجت النسبية بين الزمان والمكان وفي هذه المقالة محاولة للحديث عن الزمان ليس من بعد فيزيائي وإنما من بعد فلسفي.

 

المشاركة
عرض المزيد