مقالات بدايات
بعدسة: زياد حمصي

رسالة إلى أمريكا!

24/09/2014

كاميرا، مايكرفون صغير، جهاز كمبيوتر مزود بأحد برامج المونتاج، رهينة أمريكية الجنسية، مصور ومونتير ورجل مسلح يتقن الإنجليزية 

الكاتب: زياد حمصي

 

قبل اسابيع، انشغلت صفحات المجلات والجرائد ومثلها المواقع الالكترونية برسالة تنظيم "الدولة الإسلامية" الموجهة إلى عدوته اللدودة امريكا، ويظهر فيها مشهد قطع رأس الرهينة الامريكية جيمس فولبي، وما تبعها من رسائل ومشاهد أخرى لقطع رؤوس صحفيين ورهائن أجانب آخرين، وأكملت التلفزيونات والراديوهات المشهد، بتغطيتها وتقديمها التحليلات والمعلومات الإضافية حول الرسالة-الحدث. ملايين الدولارات ضخت في هذه التغطية الاعلامية وأخرى ستضخ عما قريب.

هذه الأحداث ليست بالقليلة، لكنها مشابهة للكثير من الأحداث التي وقعت على الأراضي السورية والأراضي التي يتواجد فيها تنظيم القاعدة ومشتقاته. المختلف فقط هو أن الرؤوس المقطوعة هذه المرة تعود إلى رهائن أمريكيين وبريطانيي الجنسية، الأمر الذي كان كفيلا بتسليط الضوء كل الضوء على هذا المشهد.

 

 

داعش تدرك ما تفعل

هذه الدائرة المغلقة التي تبدأ بالقتل، ولا تتوقف عند نشوة نشر صور المقتلة على وسائل الاعلام، يغذيها شهوة الإعلام نفسه في نشر صورة القاتل والمقتول والحديث عنهما. فتنظيم "داعش" لم يحتاج كتكلفة لإنتاج رسالته  سوى إلى بضعة آلاف من الدولارات، إضافة الى عدة عقول  تعي ما تفعله في سياق تسويقها الإنتاجي لمنظومة "الإرهاب الإعلامي"، وكيفية نشره في عالم الاعلام المرئي والمسموع.

كاميرا، مايكرفون صغير، جهاز كمبيوتر مزود بأحد برامج المونتاج، رهينة أمريكية الجنسية، مصور ومونتير ورجل مسلح يتقن الإنجليزية. أما الحدث، وهو الاهم والأفدح، فيتجسد بأن تذبح إنساناً أمام الكاميرا وتجعل منه مادة للتسويق الإعلامي.

أهمية هذه الرسالة لا تتوقف عند فجاعة الحدث وحده، فحياة رجل يفقد رأسه أمام عدسة الكاميرا ليكون جزءاً من رسالة موجهة الى أمريكا تم تصويرها بطريقة هيولودية، تفرض علينا ان نقرأ المشهد كاملاً في سياق  سيرورة تاريخية تمتد الى ما يقارب الثلاثين عاما تطورت فيها المنظومة الإعلامية لتنظيم "القاعدة" لتصبح على ما هي عليه اليوم من إحترافية وبشاعة.

يقول البعض أن العملية لربما كانت مفبركة أو أنها تمثيل لمشهد الذبح الذي لم يحصل، ويقول البعض الاخر أنها حصلت، لكن الذبح بحد ذاته لم يتم على يد المقاتل "من ذوي الاصول البريطانية"، لكن تم تنفيذه بعيدا عن الكاميرا على يد شخص آخر أكثر تمرساً وإحترافية في عملية فصل الرؤوس عن الأجساد!

من المفيد هنا أن نسأل لماذا لم تعرض "داعش" المشهد كاملا؟ وهي التي لا تخجل عادة من نشر فيديوهات أخرى لعمليات ذبح واسعة النطاق وبطريقة بربرية أقل ما يقال عنها انها تعود لعصر ما قبل الحضارة؟

لربما هي الطريقة الجديدة التي إبتدعتها القاعدة للتواصل مع العالم الغربي، الذي يخشي رؤية تفاصيل مثل هكذا مناظر مفجعة!

لقد أرادت داعش أن توسع فئة المشاهدين إلى أقصى حد من خلال إمتناعها عن نشر عملية الذبح كاملة. فالترهيب المبتغى سيحصل من بشاعة الفعل نفسه الذي تم بعيدا عن أعين الكاميرا، ومن مشاهدة الجثة أمام الكاميرا من دون رأس. أما في حال نشر مشهد الذبح  كاملا، فهذا سيدفع بالكثيرين الى الامتناع عن مشاهدة "الرسالة "!

هذا التحليل اذا ما صدق، يضعنا أمام معضلة جديدة تتمثل في كون المؤسسات الإعلامية التابعة لتنظيم "القاعدة"، تطورت ليس فقط تقنيا، ولكنها تطورت كذلك في قدرتها على قراءة عقلية المتابع والمشاهد ودراسة سلوكه وتتبع ردود أفعاله، وصولا لتحقيق غاياتها المرتجاة.

وهذا يستوجب بذل المزيد من الجهد لتتبع آلية عمل إعلامي القاعدة وما يريدونه وكيف يصلون اليه. كما يتطلب الأمر فهم المراحل التي مرت بها المنظومة الاعلامية القاعدية منذ ولادتها أبان ما عرف بالجهاد الافغاني.

 

 

لمحة تاريخية

في الحرب الافغانية كانت الأمور أشبه بحرب "مقدسة " ما بين المسلم  والشيوعي. وكما كانت هذه الحرب "مقدسة" بالنسبة للمقاتلين، كان العاملون على إنتاج صورتها يحاولون ان تأتي بنفس " القداسة ". فمكتب "خدمات المجاهدين" الموجود في باكستان وقتها، والتابع مباشرة لشيخ الجهاد آنذاك عبد الله عزام، كان المعني بشكل شبه كامل بنشر وإخراج صور الجهاد من الأراضي الافغانية.

 لم تكن الإمكانات المتاحة وقتها، تسمح بان يزيد الإنتاج الاعلامي عن أشرطة فيديو ذات صورة رديئة وكاسيتات صوتية مشوشة الصوت ومطبوعات ورقية رخيصة الثمن، إلا أنها مع ذلك حققت مجتمعة الهدف المنشود منها. فسمعة الجهاد الافغاني وقتها كان على خير ما يرام، والإعلام الغربي المتعاطف سهل الأمر وعملية جمع التبرعات كانت بأفضل حال في الكثير من البلدان، وحملات تطويع المقاتلين الشباب لم تكن لتتوقف.

الأشرطة المصورة التي إحتوت الخطب الحماسية للشيخ عبد الله عزام، كان يرافقها صور وفيديوهات أخرى لمظلومية الشعب الأفغاني وللجرائم التي ارتكبت بحقه. كلمات الشيخ كانت وقتها تطلب المدد من الأمة مالياً او جهاداً بالنفس، وتليها مقاطع تظهر الصور والمشاهد لمن لبو نداء الشيخ  في نجدة الشعب الافغاني من "الأنصار" الأفغان، و"المهاجرين" من عرب وعجم.

الداعية الشيخ يتحدث عن الجهاد في افغانستان ويسرد أحكامه ودواعيه ومشروعية كونه فرض عين، والمشاهد المتلقي في دول الخليج مطلوب منه أن يستمع ويتلقى ويشاهد الشيخ القدوة  و"البطل" في ارض الرباط "مجاهداً".

في ذات الوقت كان الجهاد متاحا وقريبا لمن اراد التطوع، حيث كانت التكلفة وقتها تقتصر على ثمن بطاقة الطائرة، والتي غالبا ما كان يدفع ثمنها شيخ آخر مرتبط بمنظومة الجهاد نفسها، ليسّفر الشاب الحالم بالجهاد إلى ارض الجهاد.

من هنا لم يكن الجهاد ليبقى بالنسبة للكثيرين مجرد صورة، بل تحول الى حقيقة بمجرد أن تم استقبال المتطوع من طرف "مكتب خدمات الاخوة المجاهدين"، ليبدؤوا بإعداده.

يضاف الى هذا تساهل الكثير من الأنظمة الحاكمة مع هذا الجهاد " النظيف"، بحيث لم يكن صعباً توزيع المطبوعات الورقية وبيع اشرطة الكاسيت الصوتية التي تحتوي الأناشيد الحماسية والخطب والمحاضرات للشيخ عزام وغيره من شيوخ الجهاد في المكتبات والاماكن العامة.

 الملفت للإنتباه في كل هذه التسجيلات المرئية، اننا لن نرى مشهداً واحداً للنحر أو الذبح. كانت الامور كلها تحت السيطرة، ولم يكن أحد يرغب في الاضرار بصيرورة العمل الجهادي وبصورته، وبالأخص ان العدو كان مشتركا.

في نهاية الثمانينات وعقب الانسحاب السوفيتي بأشهر، أغتيل الشيخ عزام وتوقف مكتب خدمات المجاهدين عن العمل تقريبا، ومع إستلام اسامة  بن لادن لزمام الامور إنتقل الإعلام الجهادي العربي والأفغاني إلى العالمية، ولم يعد محصوراً بأرض واحدة وقضية واحدة. العائدون من الجهاد في أفغانستان إلى الجهاد في دولهم عادوا ومعهم خبرات عسكرية وأخرى إعلامية.

سجلت أول عملية ذبح لمقاتل عدو من قبل" الجهاديين" أثناء الحرب البوسنية-الصربية في العام 1995، وتلتها صور أخرى من الحرب الشيشانية الروسية في العام 1996، لكن هذه الصور لم تنشر على نطاق واسع، ولم تستخدم كمادة إعلامية في الحرب الدائرة آنذاك.  فهي لم تكن مدروسة وموجه ومحضر لها، ولم تكن امراً من قيادة أعلى طلبت من إعلاميي الجيش او الكتيبة تصويرها ونشرها. كانت هذه الممارسات في مجملها ردات فعل وممارسات في سياق "قذارة" الحرب. هكذا أتت أغلب هذه الصور والمشاهد من دون اي إخراج أومقدمات أو تجهيز للمكان أو رغبة في إرسال رسالة واضحة المعالم إلى الطرف الآخر، كل ما هناك أن المصور تواجد لأجل الصدفة في لحظة قطع فيها رأس احدهم فصور الحدث.

المعارك في الشيشان كانت تسجل وتخرج بشكل إصدارات دورية، أما أبطالها فكانوا هذه المرة شخصيات من مثل  "خطاب " أبو الوليد الغامدي، وصولا الى الرئيس الشيشاني جوهر دوداييف والمقاتل الشرس شامل باسسيف. إن صور "الابطال" المحليين كانت للإستهلاك المحلي، أما صور "الأبطال" العرب و"المهاجرين" فكانت للتصدير خارج الحدود. وهذا يشبه ما كانت عليه الامور في السياق الأفغاني مع  عبد الله عزام وإبن لادن كصورة وكنموذج للمجاهد العربي أو المهاجر، وقلب الدين حكمتيار وعبد رب الرسول سياف كأبطال محليين. وفي جميع الحالات لم يسجل لهؤلاء الأشخاص، وحتى انتهاء فترة التسعينات، أي حالة قاموا فيها بأنفسهم بذبح أي إنسان "معادي" ولأي سبب كان. يومها كانت الذهنية العاملة على إخراج صورة الجهاد، لا تزال تريده " نظيفاً ".

 

 

المقتلة المصورة

يمكننا القول، أن صورة الذبح الممنهجة ابتدأت بالظهور مع بداية هذا القرن، وبالتحديد بعيد هجمات 11 سبتمبر، عندما أعلن تنظيم القاعدة حرباً مفتوحة على الجميع، وأجاز فيها إستخدام كل الاساليب.

 تنظيم القاعدة الذي قام بأكبر عملية إرهابية على أمريكا شهدها تاريخنا المعاصر، لم يكلف نفسه توثيقها إعلاميا، لكنه جعل من تغطيتها الاعلامية مهمة ملقاة على عاتق الإعلام الأمريكي. فلم يصور أي عضو تابع للقاعدة برجي التجارة أو مبنى البنتاغون قبل الضربة او أثناءها ولا حتى بعدها.

عرفوا بان الضربة كفيلة  وحدها بجعل كل وسائل الاعلام العالمية تتحدث عنها وتنشر صورها. كانوا منشغلين بالعملية نفسها وجاعلين من وسائل الإعلام، ورغما عنها، اداة في حربهم الجديدة.

طائرات أمريكية الصنع، وأبنية أمريكية الصنع، وقتلى أمريكيون ووسائل إعلام امريكية تغطي الحدث، ولاحقا تأتي مقابلة قائد التنظيم ابن لادن مع قناة "الجزيرة" القطرية.

في الأول من شهر شباط عام 2002 نحر دانيال بيرل الصحافي الأمريكي في مدينة كراتشي الباكستانية على يد خالد شيخ محمد، العقل المدبر لهجمات 11 سبتمبر كما وصف نفسه  وكما أعترف لمحققيه بعيد إعتقاله. التصوير لم يكن أبدا إحترافياً، ولم يكن هناك الوقت أو الإمكانية. حتى أنه أعيد تمثيل العملية كما قيل، بسبب أن المصور لم يعرف كيف يشغل الكاميرا!

بعد عامين ذبح  أبو مصعب الزرقاوي الرهينتين الأمريكيتين نيكولاس بيرغ وأولن أرمسترونغ. رهينة ثالثة ذبحت على يد أفراد آخرين من "جماعة التوحيد والجهاد".  في ذات الفترة تقريباً بث تنظيم "القاعدة في جزيرة العرب"، الإسم الذي يطلقه القاعديون على التنظيم في دول الخليج العربي، مشاهد مصورة لذبح الرهينة بول جونسن وقتل آخر هو روبرت جيكوب بالرصاص ومن ثم فصل رأسه عن جسده بعد قتله. ترافقت هذه العملية مع تسجيل مصور لقائد التنظيم عبد العزيز المقرن.

العمليات الخمس السابقة، سوق لها التنظيم إعلاميا على أنها نصر ميداني، وجعل من القادة  بمثابة "أبطال" يتحدثون عن العملية وعن المطالب وصولا الى أن يقوموا بعملية القتل بايديهم! أما المطالب فكانت تتراوح ما بين إطلاق سراح أسرى وسجناء للتنظيم أو محاولة إيقاف تسليم صفقة طائرات إلى دولة باكستان، وصولا الى كونها دفعة على الحساب.

هذا هو إعلام "حرب العصابات " و هؤلاء هم "أبطاله"!

لقد تم نشر هذه المقاطع المصورة على شبكة الانترنت، وتم إعادة رفعها وتحميلها ونشرها من قبل من يسمون بـ "المجاهدين الاعلاميين"، واعتبرها الإعلام " القاعدي" رداً وثأرا مبررا شرعيا في مواجهة ما قام به "أعداء الامة الإسلامية".

استمر هذا الحال حتى بعد إنتهاء التنظيم فعليا في "بلاد الحرمين" وشبه إنقراضه في "بلاد الرافدين" في تلك الفترة. أما "المجاهدون الاعلاميون" فظلوا يتغذون على ما سبق من عمليات ومقاطع فيديو و"يجترونها" ويعيدون "إجترارها" في أوقات السلم، مع إضافات كجعلها أفلاماً و"أرشيفاً " موروثا يتناقلونه فيما بينهم.

لقد كانت مشاهد وصورعمليات النحر بمثابة رسائل فيديو يتم ربطها وإقحامها بما حدث ويحدث في فلسطين وغوانتنامو و"بلاد المسلمين قاطبة"، ويتم استخدام مشاهد تروي قصصاً يحاولون التأثير من خلالها عاطفياً، ويذكرون أرقاما وتواريخاً وأماكن، محاولين تبرير فظاعة أعمالهم وشرعنتها أمام الرأي العام المسلم.

أما تجاه الشعوب "المعادية"، فالرسالة أوضح من أن يُتحدث عن مدلولاتها: رأسُ مسجى فوق جثة، غالبا ما يجعلونها ترتدي نفس الثياب البرتقالية التي أجبرهم عدوهم على إرتدائها  في معتقل غوانتنامو. يومها لم يكن هناك بالضرورة حاجة للقيام بعمليات جديدة، في الوقت الذي توفر بين أيديهم أرشيف عمليات قديمة يمكن إعادة إستخدام صوره للقول بأنهم لا يزالون موجودين.

 

 

دولة الخلافة إعلاميا

مع ظهور الدولة الاسلامية في العراق والشام وولادة ما سمي بدولة الخلافة، بدأت تظهر من جديد مشاهد الذبح ولكن بشكل مختلف إعلاميا. فمشهد ذبح الرهينة الأمريكية جيمس فولي الذي أنتجته "مؤسسة الفرقان الاعلامية" على اليوتيوب، تم تسويقه ونشره وإعادة نشره على موقع توتير، وتم الحديث عنه مطولا على موقع الفيس بوك. "المذبوح" هنا ألبس نفس الثياب البرتقالية ذات الدلالة نفسها، لكن مع اختلاف في المكان والخلفية هذه المرة.  

فهنا المكان متسع باتساع رقعة"دولة  الخلافة"، وبسيط ببساطتها. وحتى لا يتشتت الانتباه عن المضمون الأساس، يظهر الامريكي بصورة عالية الدقة، يتحدث محملا مسؤولية مقتله لدولته أمريكا، عدوة "القاعدة والمسلمين"، وبعدها يأتي صوت ذابحه الذي يتكلم الإنجليزية بطلاقة متوعداً بذبح آخرين.

لا صوت يعلو على صوتهم في النهاية ، لا صوت السكين على الرقبة ولا صوت الضحية المرعب في تلك الثانية! إختفت هذه الأصوات، كما اختفت لحظة الذبح ذاتها، لجعل الشريط اكثر تقبلاً ومشاهده مقارنة بالكثير من الصور لعمليات مشابهة قام بها أفراد التنظيم بكثير من الهمجية والرغبة المطلقة بإراقة الدم، ليصورونها وينشرونها على حساباتهم الخاصة، بعيدا عن الحسابات الرسمية التابعة لهيكلية الدولة/التنظيم شديدة المركزية.

نحن في الحاليتن، أمام رسالتين أتيتين من رحم ذات الدولة. الاولى منها رسمية وموجهة بعناية ودقة بالغتين. والثانية تحمل مضامين مبطنة مرضيٌ عنها، يرددها قادة التنظيم، الإعلاميين منهم والعسكريين، وأساسها "الرعب " والتهديد والوعيد للأعداء، والنصح والمناصحة للمخدوعين والمغرر بهم من باقي الشباب المسلمين، بأن هذا سيكون مصيركم إن أنتم  لم تعودوا إلى رشدكم.

بعبارة أخرى، فإن الحرب السورية أعطت بعداً جديداً للإعلام القاعدي. فالعولمة التي تجلت ملامحها في العقد المنصرم كانت أيضاً في مكان ما عولمةً للجهاد ولأدواته. العالم كقرية صغيرة، أصبح يفيد كذلك المجاهدين المتحمسين لنشر كلمتهم في هذه القرية المعولمة. 

من هنا جاء إنشاؤهم لمؤسسات إعلامية رسمية "كذراع اعلامي" للعمل العسكري، إبتدأ من مركز"الرايات السود" في أواخر الثمانيات، إلى مؤسسة "السحاب" التابعة بشكل مباشر لتنظيم القاعدة في أفغانستان وباكستان، إلى"البتار" السعودية و"الملاحم" و"الأندلس" و"الجبهة الإعلامية الإسلامية العالمية"، واليوم في سوريا "المنارة البيضاء" التابعة لجبهة النصرة ونظيرتها " الفرقان" التابعة للدولة الإسلامية في العراق والشام، وأخواتها "الحياة" و"الإعتصام" .

هذه المؤسسات التي أنشأت أساساً لنشر أفكار التنظيم ورؤيته بالإضافة إلى عملياته العسكرية وخطابات قادته ومنظريه الشرعيين، هي بالضبط ما يدل على تواجده وعلى بقاءه على قيد الحياة!

 يضاف الى عملها هذا، الجانب الدعوي الذي يستند إلى كونهم أصحاب الحقيقة المطلقة التي ينوط بهم تعميمها ونشر مبادئها، وصولا الى الدعاية والترويج لنمط الحياة في الدولة الإسلامية، والذي يريدون فرضه على السكان المحليين. فنمط الحياة هذا يحتاج لتسويق، وتسويقه يقوم على ما يشبه تلفزيون الواقع. فكل ما لديهم موثق ومسجل من الحياة اليومية "للمجاهدين" إلى إستراحتهم الى معاركهم، مرورا بالمناطق التي يسيطرون عليها ويحكومنها ويطبقون فيها قوانينهم "الإلهية".

 

صورة"البطل"

ما يستدعي التسويق أيضا، هو سمعة وصورة المنظمة/الدولة مقارنة بغيرها من المنظمات الجهادية. فإستقطاب مجاهدين أشداء، مؤمنين بشكل مطلق بالطاعة العمياء وبتطبيق الشريعة، هو بحد ذاته هدف للإعلام الجهادي، وهذا يتطلب تنافساً مع باقي التنظيمات "الجهادية" على جذب هذا المقاتل-البطل المطواع . وفي هذا السياق يتم إستخدام صور وفيديوهات لمعارك عنيفة، مصورة بكاميرات عالية الدقة وممنتجة بطريقة إحترافية، تحاول أن تتشبه بالأفلام الأمريكية لجهة المؤثرات المستخدمة وزوايا التصوير، بل وحتى في إبطاء حركة المقاتلين أو تسريعها.

في هذا السياق، من المفيد ملاحظة تطور الهيئة الخارجية للمقاتل النموذج، فالمقاتلين أثناء الحرب الافغانية كانوا كأنهم خارجين من عصر الصحابة. أما في حروب البلقان والحروب القوقازية، فصورة المقاتل كانت تشبه صور الجنود النظاميين مضافاً اليها هيئة إسلامية كاللحى الطويلة جداً. أما في العراق وسوريا في يومنا هذا، فمقاتلي القاعدة من الجيل الثالث، الذين عاشوا فترة مراهقتهم ما بين العاب الفيديو جيم النينجا والمنتديات الجهادية وأخيراً التويتر واليوتيوب وأفلام الأكشن الهوليودية والحروب على الإرهاب، فمزجوا ما بين الثلاثة ليخرجوا بهيئة المقاتلين "العصريين" الإرهابيين، لابسي الأقنعة السوداء التي تشبه النينجا والمدججين بالجعب المليئة بمخازن الذخيرة والاسلحة الاوتوماتيكية الحديثة.

أما قائدهم "البطل" الغامض المختفي عن الأنظار لسنوات طويلة، فكانت لحظة خروجه هي الأخرى جزءاً من هذه المشهدية "المصورة" والمدروسة بعناية فائقة. فصورة أبو بكر البغدادي وكأنه يخرج من إحدى المسلسلات التاريخية بهندامه وهو يعتلي منبر جامع الموصل الكبير، لها رمزية ودلالة كبيرة. فالجامع بناه نور الدين محمود زنكي حاكم حلب، وهوموسع الإمارة في بلاد الشام والعراق، ووريث مشروع أبيه في محاربة الأفرنجة الصليبيين وحلفائهم.

 كان ملفتا كذلك المدة التي القى فيها خطبته، فخلال 20 دقيقة كان هذا الرجل، الذي يحتل قائمة أهم المطلوبين في العالم متواجداً في مكان عام وفي متناول الجميع! البغدادي لم يظهر سوى في هذا الشريط، وهو بالطبع لم يظهر حاملا السكين ليقتل الرهينة الامريكية، كما فعل الزرقاوي. فهو الآن خليفة "المسلمين"، ومهمة القتل باتت منوطة بالمقاتلين من جنده. أما هو فعليه الإهتمام بقضايا الدولة والامة، هذه صورته التي تم إخراجه بها علينا.

كل ما سبق إذا دل على شيء فعلى أهمية الإعلام لدى هذا التيار المتشدد. فإضافة إلى التمويل، فإن هذا التيار بات يملك خبرات إعلامية تتحدث عدة لغات وتتقن إستخدام التكنولوجيا الحديثة ووسائل التواصل الاجتماعي من تويتر ويوتيوب. وهم باتوا يصنعون لنا الحدث ويسوقونه، ونحن نعيد تسويقه بالإتجاه المعاكس، محللين ودارسين ومتنبهين لأصغر التفاصيل، الأمر الذي يعطيهم شعوراً بأن ما يقومون به "يؤتي أوكله ".  فمثلا بعيد الخطبة المصورة الوحيدة لأبي بكر البغدادي، نشر موقع "العربية نت" أكثر من ثلاث مقالات وتقارير تتحدث عن ساعة يده! أجل ساعة يده، وما هو نوعها وكم ثمنها وبأي يد إرتداها!

كل مقال يعقب على المقال الذي سبقه، ويستشهد بمقالات أخرى نشرتها مواقع أو صحف ومجلات مختلفة. ذات الامر حصل مع ساعة الجولاني أمير جبهة النصرة، والتي ظهرت في مقابلته مع مراسل قناة الجزيرة تيسير علوني !

 

 

الاعلام في عصر الإرهاب المعولم

هناك اليوم، المئات بل الآلاف من المقالات والكتب والأفلام والتقارير التي تتكلم عن الإرهاب والإرهابيين، لكنها لا تفعل شيئا آخر سوى عرض الصورة التي يريدها الإرهابيون أن تنتشر عنهم وعن عنفهم على شاشات التلفزة وعلى الصفحات الأولى للمجلات والصحف.

صورة العنف هذه التي تنتشر وتسود بحجة تغطية الحدث، لا تفعل شيئا آخر سوى أن تعطي للقاتل ما يدفعه للقتل من جديد. فالقتل عنده غاية من أجل إرهاب الناس وتخويفهم، وها نحن نعطيه ما يريده من امتلاك القدرة على إرهابنا.

عندما ندرك أهمية الاعلام للتنظيمات المتطرفة، وكيف تعتمده أساسا لبقائها ودليلا على حياتها ووسيلة لإستقطاب مقاتليها الجدد، فيجب علينا التأني كثير قبل أن نعيد نشر ومشاهدة وتسويق ما تنتجه هذه التتنظيمات المتطرفة، تحت حجة تغطية ونقل الخبر!

ترى هل كانت داعش لتنحر رهائنها لو أن أحدا لم يتناقل هذا الخبر وهذه المشاهد بالتحليل والتمحيص والبحث حتى في نوع السكين المستخدمة ومصدر صنع حذاء القاتل! وهل كانت داعش  لتكمل مسلسل "النحر" هذا مع الصحفيين الآخرين لو أننا لم نتلقف رسالتها الاولى بهذا الترحيب!

أما أمريكا التي صنعت شكل ومظهر الإرهاب الحالي في إعلامها وأفلامها وألعابها الإكترونية، فها هو اليوم هذا الإرهاب يعود اليها ليقدم نفسه على شاشاتها، لكنه هذه المرة مصنوعا وممنتجا ومصورا على أيدي الارهابيين أنفسهم

يمكننا القول في الختام أن داعش، ومن قبلها منظمة "القاعدة" الأم، ليست فقط منظمة إرهابية عسكرية لديها ذراع إعلامي قوي، بل هي في مكان ما منظمة إعلامية قوية ذات ذراع عسكري، وأنها وجدت في زمن بات الكثير من المستفيدين والمسيطرين، بحاجة  في قرارة أنفسهم للإرهاب ورسائله المتلفزة، حتى يستمروا في تغذية مخاوفهم ومصالحهم.

 

المشاركة
عرض المزيد