مقالات بدايات

الصورة لأجل الصورة

10/04/2014

الكثير من الصور والقليل من المصورين

الكاتب: زياد حمصي

المصوّر: زياد حمصي

 الصورة لأجل الصورة
(الكثير من الصور والقليل من المصورين)
10/04/2014


ثلاثة أعوام طوال مروا بسرعة،  كان من حصيلتهم خمسة وخمسون ألفاً من الصور التي وثقت مقتل أحد عشر ألفاً من الشهداء تحت التعذيب، تم تسريبها على يد أحد المنشقين عن أجهزة النظام المخابراتية. يضاف إليها مئات الألوف من الصور لأشلاء الشهداء متناثرةً هنا وهناك، أطراف مبتورة ومشاهد لنساءٍ ثكلى وأمهات مكلومات وأطفال يبكون ..بيوتٌ هدمت ومظاهرات تجوب المدن والبلدات، تنادي بإسقاط النظام وتطالب بالحرية.

هل هذه هي سوريا اليوم فقط! الإجابة ستكون منقوصة إذا ما كانت "نعم". لأنها لم تتسأل عن ماهية الصور التي استندنا على أساسها لنجيب بنعم أو  لا. ما هو مصدرها وعددها ومضمونها، بل وحتى مصداقيتها؟ من هو المتلقي الحكم وما يهمه ومن خلال أية وسيلة يتابع المشهد السوري ولماذا؟
في المقابل، ومن الطرف الآخر، ستخرج صورٌ لمجموعة مسلحة تذبح  جندياً في حلب أمام عدسة مصورٍ أجنبي. صورٌ لعملية أكل قلبٍ بعد شق جسد صاحبه الجندي في جيش النظام. صورة لطفل صغير في مدينة حمص يحمل سلاحاً يتجاوزه طولاً. مقطع فيديو يظهر فيه أحد أطفال "بنش" يغني أنشودة طائفية فيها توعد بالذبح للعلويين. صورٌ أخرى لمقاتلين أصحاب لحى طويلة وملابس غريبة يقومون باستهداف واحد من المقرات الأمنية بقذائف الهاون من داخل أحد أحياء مدينة حلب، ويظهر فيها أطفالٌ صغار يشاهدون ما يجري. معارك تجري في حي ما، بالعاصمة دمشق أو في مدينة حلب، وأناس يرقصون في ملاهٍ ليلية ليس على مسافة بعيدة من الحدث.

كل هذا يجعلنا نعي أن هناك واقعة لا تقبل النقاش تفيد بأن شعباً في سوريا يذبح بدم بارد. شعب هو الضحية في مسلسل للموت أبطاله على الطرف المقابل جلادون محترفون، بأخذ دور الضحية المزعومة لمؤامرة كونية شخصياتها مكونة من عصابات إرهابية مسلحة ورجال دين متطرفين ودول استعمارية ذات نفوذ وشعب فاقد لرشده.  جلادون محترفون يستغلون ما لديهم من صورٍ لنا، كانت غالباً نتاج أيدينا بحسن نية ومن غير قصد، ويستخدمونها ضدنا، محاولين قلب الآية، ومتناسين أن هذه الصور كانت في الأساس محاولة منا  لتصوير الواقع بجزئياته، وكان البعض منها فعلاً توثيقاً لخطأ أرتكب عن غير عمد. هذا ناهيك عن مجموعات من الصور التي "صنعت" باحترافية لتلميع صورتهم واستلاب الضحية حقها في أن تكون حتى الضحية!

الإشكالية هنا أن الضحية هي ضحية ثلاث مرات، مرة بسكين جلادها ومرة حين يصور الجلاد نفسه وهو يقتل الضحية ويمثّل بها! ومرة أخيرة حين تعود هذه الصور لتظهر على يد مناصري الضحية وأبناء دمها، ظناً منهم أنهم بهذا يدينون جلادها!
يضاف إلى كل هذا الصورالمأخوذة لأهل الضحية في لحظة الحدث حين يكون الدم حامياً، يبدون فيها متعطشين للدماء، دماء القاتل بدايةً، وفي أحيان كثيرة دماء أهل القاتل ودماء طائفة القاتل وحتى المدينة التي أتى منها. في مثل هذه اللحظات لا تهتم الناس المفجوعة بوقع كلماتها، أنها تريد عدالة لم تأتيها، فلا تجد أمامها  إلا كاميرات تصور ما لا يجب أن يقال وما لا يجب أن يصور.
هذا كله مرده، ما ذكر من صور أتت من عدسات مصورين يريدون نقل الواقع دونما اعتبار لماهية ما ينقلوه، ظناً منهم أنه الحقيقة أو التمثيل الكلي لما حدث على اعتبار أنه تم بالفعل وعلينا الإقرار أنه تم بهذا الشكل. بعبارة أخرى نحن هنا ضمن منطق الصورة لأجل الصورة! فالصورة كما يعتقدون ما هي إلا مرآة للواقع، وانعكاس له!
كل هذا يحدث دون الالتفات لكون ما يرونه ويصورونه من الواقع، سيكون غير ذلك وفي خانة أخرى، حيث سيتحول الواقع الجزئي الذي يرونه ويعايشونه ويوثقونه، ليكون بمثابة الواقع الكلي عند آخرين على اعتبار أنه سجل وصور وحفظ وعرض عليهم من بعد ليكون كذلك!

لا يزال البعض للأسف يعتقد بأن الصورة هي الواقع، وفي هذا مجانبة للحقيقية. لأننا إذا ما حاولنا فهم الواقع من خلال ما يصلنا من مشاهد عنه، سنجد أن الواقع صعب الفهم بقدر صعوبة فهم الصور الواصلة إلينا عنه والخارجة من فقاعة الحالة. فالصور على بساطتها وبساطة تكوينها ومكنوناتها، بل وحتى على مستوى آلية استحضارها و" صناعتها"، ليس بالضرورة أن تفسر الواقع وتبسطه. لا لأن الواقع معقد بذاته فقط، بل لأن صورته قد تجعل منه أكثر تعقيداً وتركيباً، بدلاً من أن تجعل منه أكثر بساطة وقدرة على الفهم. فعلى سبيل المثال صورة لرجل بيد مجروحة تسيل دماً، لا تخبرنا أن ورائها هناك ضحية تذبح بيد جلادها وحين أرادت الضحية إبعاد السكين عن رقبتها خُدشت يدها ويد الجلاد. الصورة هنا تصور الضحية كقاتل مأجور أراق قطرات من دم ثمين لا تشير أنها لقاتله.

المشاهد السابقة والصور هي من الواقع وهذا صحيح، فالصورة  في هذا لا تكذب غالباً، لكنها ليست الواقع "كله". هي ما أراد المصور أن يجعله معبراً عما يراه من الواقع على أساس أنه "الكل"، متناسياً أنها زاوية صغيرة منقوصة عن مكملاتها إذا ما عرضت وحدها. وقد تستخدم، عن طيب خاطر أو سوء نية،  لجعلها الواقع كله، على الرغم من ما يعتريها من تناقضات بنيوية. من يعنينا هنا هو المصور عن “طيب خاطر”، ذاك الذي يصور دون أن يعرف الغاية من التصوير ومدلولات الصورة وما يمكن أن تستخدم من أجله! ذاك الذي يسأل نفسه فقط كيف يصور، متناسياً أن يسأل نفسه أسئلة من شاكلة متى يصور؟ وماذا يصور؟ وما الذي ينشره ومتى وبأية طريقة وعن طريق ماذا؟ دون معرفة الإجابة عن هذه الأسئلة سنظل ندور في فلك حلقة مفرغة عنوانها "الصورة من أجل الصورة". ولم لا، قد هذا يجوز إذا ما كانت الصورة من قبيل تصوير قطة نائمة على قارعة الطريق، لا انساناً مقتولاً رُمي في المكان ذاته!
هذا يقودنا إلى جدلية ماهية الصورة والهدف منها وما هو مطلوب منها؟ هل هي فقط صورة من الواقع، أو بمعنى أدق، صورة لأجل الصورة، أم هي صورة ذات مضمون وهدف، وفيها ما فيها من رسالة. إن الخيار القائل أن الصورة هي فقط نقل للواقع، يدفعنا للنظر والتحليل والفهم ومن ثم المغامرة بالقول بأن لا صورة لأجل الصورة، ولا واقع "كلي" بالإمكان نقله تماماً كما هو بـ"صورة" دونما وجود رسالة ومضمون "ما" أو "هدف" ما متمم للصورة يجعلها تعبر عن هذا الكل المراد ولو بجزئية منه.

الكل يصور لهدف، ولا أحد يصور فقط لأجل الصورة أو لأجل الصورة ذاتها ولا شيء آخر غيرها أو لأجل نقل الواقع ذاته دونما إضافة "رسالته وهدفه ومضمونه وروحه". فهذا الذي يعطي للصورة معنى وقيمة تمكن المصور من نقل صورة الواقع الذي يراه هو، ومن أجل الهدف الذي وضعه غايةً له.
يبدأ هذا من الثانية التي اختارها المصور ليصور فيها ما يريده أن يبقى، ومع من، وكيف، ومضامين يحاول أن يوصلها من خلال صوره ورسالة يريد لها أن تنتشر، ومتلقين ذوي صفاتٍ محددة وخصائص. قد لا تكون الأهداف سياسية أو ايديولوجية وقد تكون. وفي حال كانت الأهداف شخصية تماماً، من مثل حالة مصور يذهب إلى منطقة مشتعلة تعد كمنطقة صراع وهو على الخطوط الأمامية، حيث يصدف أن يجد مصوراً آخر في ذات الوقت معه معني بشيء آخر، فـ"محصوله" من الصور سيكون معبراً عن الحالة التي يشاهدها، ولكن من وجهة نظر أكثر حساسية "للانتشار والتسويق" لصوره التي بدورها ستسوق لاسمه. هذا المصور لن يكون مع طرف ضد طرف، لكنه في نفس الوقت سيكون مع نفسه كطرفٍ يستجيب ل"ما يطلبه السوق" أو "ما يهم السوق"، أوبتعبير آخر يركزعلى مضامين وأماكن وشخصيات معينة بذاتها أو تناسب الصورة المرسومة في مخيلة "السوق".

علينا أن نفكر في هذا الاتجاه أولاً حتى نتمكن بعد ذلك من تحديد كيفية وضع الرسالة والمضمون الواجب على الصورة أن تحتويه وحتى الهدف منها بوضوح تام، على الأقل في أذهاننا كمصورين بدايةً وقبل ذلك أن نحدد من نحن كمصورين ومع أي طرف، ومن ثم وفي سوية أخرى كمشاهدين ومتذوقين للصورة يعلمون أن ما يرونه ليس فقط انعكاساً وحفظاً لبرهة ما من الزمن، بل هي اللحظة التي أراد شخص ما أن يحفظها لغاية ما، النقطة تكمن في الغاية ووجودها من عدمه وهنا مربط الفرس في التسويق الصحيح  لواقعنا "الحقيقي" من خلال صورنا التي علينا أن ننقلها من أعيننا لأعين المتلقي.
فذاك الذي صور عملية أكل القلب، أراد بالتأكيد إخافة "عدوه" من خلال صوره. هذا ما حصل لربما! لكن السؤال الحقيقي هل كانت الغاية تحتمل ما ترتب عليها من تشويه صورة "طرفٍ" كامل ومصادرة اسمه لإعطائه اسم "أكلة القلوب البشرية"؟ وهل ذاك الذي أكل القلب، وهي حالة وحيدة بالمناسبة - سيأكله لولا أن وجد من يصوره؟ هل كان الطفل ليحمل بندقية أطول منه لولا أن أحداً ما جعله يحملها ليصوره معتقداً بأنه سيكون للصورة الوقع الذي يتخيله! ومن ذاك الذي قام بإحضار الصحفي الأجنبي ليقوم بعدها بذبح الجندي أمام عدسته، وما الغاية؟ لماذا لم يظهر لذاك المصور في رحلته إلى سورية سوى مجموعة الصور التي تظهر وحشية "المعارضة"؟
الصورة هنا تدخل أيضاً كمحرك لحصول حدث ما، وليس كناقل لصورة الحدث فقط. وفي سوية أخرى ستكون الصورة ليس فقط سبباً في حدوث ما حدث، لكن سبباً في التواطئ على عفويته وفي عدم التفكير في العواقب التي يجب على المصور صاحب الغاية أن يعرفها، قبل ذاك الذي أقدم عليها. فعملٌ من غير ضوابط، هو عمل أخطاؤه أكثر من نتائجه المرجوة، والمضار هنا تتجاوز المحاذير الأخلاقية التي عادة ما يتجنب المرء الاقتراب منها والمساس بها، لتشوش على  مصير ثورة وشعب.

في الانتقال لسوية أخرى، مشكلتنا في سوريا أننا نصور كثيراً لكن دون تحديد ما سبق من مضامين وأهداف وغايات، هناك آلاف من الصور تنشر كل يوم، وآلاف أخرى من الفيديوهات المصورة في سوريا، البعض منها يظهر على شاشات التلفزيون أو على مواقع التواصل الاجتماعي والمواقع الإخبارية أو في الصحافة المطبوعة والكتب. الكثير الكثير من الموت، واللون الأحمر المتشح بالسواد هو الغالب. بما يجعل من حالة الموت بالنسبة للسوري حالة بحاجة للفهم أو للتعايش معها، بل وحتى التغاضي عنها في بعض الأحيان. أما لغير السوري فهو ليس بالضرورة بحاجة للتعايش مع موتٍ لا يحيط به، ولا هو مطالبٌ بفهمه. فهناءة عيشه واستمراريتها الطبيعية تفرض عليه هذا! صحيح أن  تأييده لنا في بدايات الحراك كان بسبب  اللون الأحمر والأسود وصور الموت، فساند من يظهرون كمستضعفين أو مظلومين يقتلون يومياً بدم بارد. لكن مع مرور الزمن أصبح المشهد مكرراً ومألوفاً بحيث أن الابتعاد عنه صار أولوية بالنسبة له.
إن كثرة الدماء تضر...تضر..وكثرة الصور المتعلقة بأجساد الضحايا إنما تبلد الأحاسيس وتدفعها بعيداً عن مصدرها وبعيداً عن التفكير به. ما الذي سيجعل أباً حنوناً في الريف البريطاني مثلاً، يشاهد مقطعاً لفيديو يصور أحد القتلى في الحرب السورية؟ هذا ناهيك عن البحث عنه!

يا ترى هل إن كان المشهد عبارة عن ضحكاتٍ أو سخرية أو أي شي يخرجنا من إطار الصور النمطية التي إعتدنا عليها، ستكون ردود أفعالنا هي ذاتها! ألن ينجذب المشاهد أياً يكن لهذه الصور الغير نمطية محاولاً معرفة سبب الضحك؟
يمكن للضحك أن يكون سلاحاً أيضاً والابتسامة في بعض المواقف أشد وقعاً من العبوس والنظرات المتشنجة وأصوات الصراخ والبكاء التي يحاول الانسان العادي الابتعاد عنها. نحن اليوم بحاجة لتحدي الواقع لا لسرده فقط. لتطوير المشهد والكادر والشخصيات التي بداخله من خلال التقاطها في تعدد المواقف وتنوعها، وليس فقط في تلك المواقف التي نظن من وجهة نظرنا الضيقة أنها هي الحدث. فكم من مصاب يضحك على إصابة زميله المصاب في مؤخرته بدلاً من مواساته على ما أصابه. هذه الصور غير النمطية، هي أيضاً جزء من الواقع، لكنها مهمشة ونادرة الظهور، مع أنها قد تكون أشد قدرة على تصوير الواقع في تعقيده، من الكثير من الصور النمطية التي نروجها ونحتفي بها.

ومن هنا نعود للسؤال الأهم  لماذا نصور هذا المشهد أو ذاك؟ هل للتوثيق؟ لكسب التأييد أم للقول أن هذا حدث!! وماذا يجب أن يحصل بعد التصوير!! ما الذي نريده بالفعل من صورنا؟ و كيف نحقق ما نريد؟التصوير من أجل أن يكون المرء مصوراً ليس أمراً يريد المرء فعله كهواية تحت قصف المدافع والطائرات. هل نريد صورة تجعل من المتلقي يتعرف من خلالها على حقيقة الوضع؟ ماذا نريد منه؟ أن يتأثر! أن يتعاطف أو أن يقرر فعل شيءٍ ما! من هو هذا المتلقي أصلاً؟ هل هو نفسه الأب الحنون في الريف البريطاني الذي أتينا على ذكره سابقاً؟ أم ناشط حقوقي من نفس القارة، أم هو واحد من سياسيي الدول الكبرى؟ هل هم عامة الناس أم شريحة صغيرة منهم؟

الأسئلة تكثر في هذا السياق لتصبح كيف وأين و متى يشاهد  المتلقي الصورة؟ وجهة النظر التي تقول بأن على الصورة أن تكون موجودة في كل وقت وفي متناول الجميع، تستوجب بأن يكون المتلقي قادرٌ على تحملها وفهمها واستيعاب أبعادها إذا ما كانت مثل تلك الخارجة من سوريا هذه الأيام. لكن هذا غير صحيح، فلا يمكن أن تكون الصورة موجهة للكل في نفس الوقت، فعلى سبيل المثال السوري الذي يعيش في مدينة دوما لا يهتم كثيراً بمتابعة صور القصف على مدينته أو حتى مشاهدة صور شهداء مدينة أخرى.
من هنا فالمواطن الصحفي تختلف آلية عمله والصور الواجب التقاطها من طرفه لتغطية الحدث، عن تلك التي يأخذها الموثق لانتهاك ما. كما أن للإعلام العسكري الثوري قواعد وقوانين ونظم تختلف عن الإعلام "المدني" الثوري. أما الصحافة فهي في وادٍ آخر يهمها ما يهمها....عداك عن أن "الثائر"، إذا ما حاول العمل كصحفي فهناك خطر ضياع القيمة كلها من الصورة ما بين ثورته وما بين الصحافة كمهنة ورسالة بحد ذاتها. فلكل أدواته وغاياته وأهدافه ووسائله ومنصات نشره...
القيمة في الصورة تكمن أيضاً في هوية المصور، والذي بضياعه تضيع القيمة في كثيرٍ من الأوقات! وهل هناك للصورة هوية أصلاً؟

المتلقي يستعد لا إرادياً لصورة في إطار ما أو ذات هوية ما، طبقاً لمصورها، و هذا ما كسره تعدد المنصات العاملة على نشر الصورة وإعادة نشرها من جديد. وفي كثير من الأوقات يضيع اسم المصور وهويته في خضم هذه العملية، فتصبح الصورة ذات هوية منفصلة عن صاحبها متصلة بهوية المكان المنشورة فيه والسياق والطرف الذي يستخدمها. لكن يبقى فيها جزءٌ بسيطٌ متصلٌ بالمصور بشكل خفي وهو الرسالة من ورائها لا الهدف. حيث يتصل الهدف هذه المرة بمنصة النشر والسياق وهدف الناشر من إعادة نشر الصورة. فمثلاً إذا تابعنا المنشور المتصل بالشأن السوري  في مواقع التواصل الاجتماعي ومنصات نشر الفيديوهات والصور (تويتر، فيس بوك، يوتيوب..إلخ) على تعداد مستخدميها الذي يعد بمئات الملايين، نجد أن أغلبه هو عبارة عن مشاهد مصورة فيديوية والأكثر هو الصور الثابتة، والكل يستخدم صور الكل، في محاولة منه لكسب ما يعتبره معركة إعلامية في الفضاء الافتراضي، إضافة لمواده المصورة التي يعتبرها "سلاحاً" في وجه الخصم توثق انتهاكاته وانتكاساته وتظهره على الحقيقة التي يريدها هو من المتلقي أن يرى خصمه عليها.

يضعنا هذا الواقع أمام دوامة لا نهاية لها، بدايتها إمكانية أي أحد من نشر أي صورة يجدها مناسبة للنشر، وفي أغلب الأحيان من غير التفكير بجدوى نشرها. فالمواقع التي بدأت كوسائل للتواصل باتت فضاءً لا نهاية له لمن يريد أن ينشر ما يريد هو أو ما يظن بأننا نريده. الغاية هنا أن تنتشر الصورة أوسع ما يمكن، لأكبر عدد من المتلقين ممن سيعيدون نشرها بطريقة أو بأخرى من خلال حساباتهم الموجودة على هذا الموقع أو ذاك. يضيع المعنى غالباً وتتحول الصورة لمجرد صورة بعد فترة.
هذه المواقع الالكترونية آنفة الذكر، جعلت من مشاهد الدماء أمراً عادياً يمر كمرور الأيام على المتلقي، وهذا ما لا يمكن ضبطه اليوم. فالجميع بطريقة أو بأخرى مصورٌ أو لديه أداة تمكنه من التصوير في أي لحظة يجد أنها تستدعي أن يخرج أداته التي دَفع/دُفع ثمنها آلافاً من الدولارات أو حتى كاميرا هاتفه المحمول رخيص الثمن. فهو وكثيرون غيره في نفس الوقت ونفس المكان سيقومون بتصوير نفس الحادثة. الكل يريد تصوير كل شيء ونشر ما يصور. لدينا الكثير من الصور و قليلٌ من المصورين.

تم كتابة المقال لمؤسسة بدايات ضمن سلسلة تنشر تباعاً عن مواضيع مرتبطة بالثورة السورية وعلاقتها بصور الموت.
 

المشاركة
عرض المزيد