مقالات بدايات

عدسة السلطة..عين النظام على مواليه

08/01/2014

ترسخت ل(التلفزيون الرسمي) سطوةٌ خفية ومباشرة في آن. 

الكاتب: يامن محمد

عدسة السلطة.. عين النظام على مواليه
06/01/2014

يروي سامي الجندي في كتابه "البعث" كيف أنه دخل ذات يوم، في غمرة المحاكمات العسكرية بعيد حكم "آذار"، إلى وزارة الإعلام كي يشرف على نشرات الأخبار، وإذ بأحد موظفي التلفزيون يطلب منه مشاهدةَ شريطٍ قبل بثه. يتابع "الجندي" وصفه للمادة "التسجيلية" التي رآها في غرفة التجربة، والتي "لا يصدقها عقل": رأى أعضاء المحكمة أن يشترك الشعب بمباذلهم فلا تفوته مسرات النصر فعمدوا إلى تسجيل مشاهده: الإعدام من المهجع إلى الخشبة، عملية عصب العينين، الأمر بإطلاق النار، ثم يندلق الدم من الفم وتنطوي الركبتان وينحني الجسد إلى الأمام بعد أن تتراخى الحبال نفسها، وفمه مفتوح كي يقبّل أمه الأرض. ويروي "الجندي" أيضاً أنه وبعد خروجه من الغرفة ومماحكته مع أحد الضباط دخل "صلاح الدين البيطار" لاهثاً ليمنع بثَّ مشاهدِ الإعدام محذراً: "إياكم أن تُنْشَر إنها قضية عالمية".من المرجح أنها كانت حادثة فارقة في تحديد كيفية تعامل حكم البعث السوري فيما بعد مع "الصورة" والمادة المسجلة، وأجهزة الإعلام. وفي تمييزه –مثلاً- عن البعث العراقي الذي كان له سلوك آخر في هذا المضمار.ميز البعثَ في سوريا إدراكُه لجوهر المسألة بما هي "قضية عالمية" حسب وصف البيطار -الذي سيُغتال زمن حافظ الأسد في باريس دون أن يعلم عموم الشعب السوري بذلك- أي إدراك البعد السياسي، وليس الإنساني، المترتب على إفشاء ممارسات السلطة، وتهديده لتثبيت أركانها، والاستمرار في التفرد بالحكم. كان لهذه السياسة نجاعتها وميزتها المموِّهة وأثرها العميق على الحياة السورية حتى يومنا هذا، بما لا يخرج عن سلوك عام لنظامٍ اُعتبِرَ أذكى نسبياً من بقية الأنظمة القمعية في منطقته.

هكذا لم ترشح من مجازر الثمانينات –مثلاً- إلا "صورٌ" قليلة في الوقت الذي كان فيه البعث السوري يَنشر ويعرض جرائمَ "العراقي"؛ إن كان في العراق، أو في الحرب مع إيران، أو مجازر حلبجة الكيميائية. ويَذكرُ الكثيرون جيداً أنه وبعد غزو الكويت خُصص جناح هذا البلد في "معرض دمشق الدولي" لعرض جرائم "صدام" هناك بفجاجة، صورٌ بدقةٍ عاليةٍ وبأبعادٍ كبيرة لأجسادِ كويتيين بلا رؤوس، وأشلاء مشوهة. تصاعَدَ الحرصُ في حكم الأسد الأب، مع إدراكه لأهمية هذا "التكتيك" الثمين، ذي المردود العالي، والمتعدد المنافع والأوجه، إن كان في ضبط الداخل وتعمية محكوميه، أو تضليل الخارج وخلق الذرائع لقواه (الخارج) لدعمه أو السكوت عنه، حتى ولو كانت بعض هذه القوى تعاديه في العلن (حكوماتٍ أو أفراداً)، أو بما يتعلق باحتكار المعلومة. ولكن يبقى أهم أهداف التكتيك المذكور، تحقيق الإستراتيجية البعيدة في خلق جمهور ممسوح الذاكرة ومفصول عما جرى ويجري.غزا "الكتم" كلَّ مرافق الحياة السورية ومنابرَ التعبير عنها، وتعمق في الوقت عينه إحساسٌ بالرعب تجذَّر في الشخصية السورية -إذا جاز لنا القول- بوطأة مضاعفة، بأن أصبح الخوف أشد توارياً وأكثر قدرة على المباغتة. هكذا سيبقى لكلمة "تدمر" وقعها، و"سينتحرُ" أمثال محمود الزعبي و غازي كنعان "متى شاؤوا".

النظام من المنظور الإعلامي
ترسخت "للشاشة" (التلفزيون الرسمي) سطوةٌ خفية ومباشرة في آن. حتى أصبحتْ من خلالها "عدسةُ السلطة" التي تسجل للمواطن/المتلقي رسالتَها "عينَ النظام" عليه، بما يكاد يطابق مضمون وصف جورج أورويل "لشاشة الرصد" في روايته الشهيرة "1984". بعد بدء الربيع العربي كان على المواطن السوري أن يصفي حسابه مع الإرث الثقيل في الاتجاهين معاً، عدسة/شاشة، ولن يكون ذلك إلا بأن يأخذ مكان النظام بالكامل في اللعبة الإعلامية إذا ما قرر المعارضةَ أو بعبارة أدق: الثورة. مع الانفجار الهائل الذي أحدثته الثورة السورية، المتمظهرة –بالدرجة الأولى- بالشكل الإعلامي المنفلت خارج "عين النظام"؛ بدأت عين أخرى بالتشكل، استمات النظام لإطفائها أو تأخيرها ما استطاع منذ البداية، باعتقال وتعذيب وقتل ليس من يصور فقط وليس من ينشر فقط وفق معادلة عدسة-شاشة، بل طاولتِ الملاحقةُ من يُشتبه بأنه أداة الوصل بينهما، أي من ينقل المادة المصورة من أرض الحراك الجديد لإرسالها عبر الإنترنيت إلى المحطة الفضائية بالدرجة الأولى والإنترنيت بالدرجة الثانية (الشاشات البديلة).
تَشَكُّلُ عينٍ للثورة كان بدايةَ تصدعِ عين النظام، وإذا كانت عين الثورة الجديدة أو أعينها المتنوعة تمثل السوريين الثائرين؛ فإن عين النظام "الواحدة" في البداية ستمثل "الموالين" فقط، وهذه أولى علائم انحسارها ولكنها كانت في نفس الوقت، وسيلة النظام المثلى لتقسيم الشعب.
من "الآن" فصاعداً ستحاول عين النظام (وفق قراءة النظام للواقع السياسي) احتواء مشاهديها، جمهورها، والتخصص بهم، وليس بمَنْ كسر الطوق وانفلت منها، أو من لم تجدِ معه محاولاتُ التطويع الإعلامي على مدى العقود المنصرمة، بل ستتفرغ لمن جنتهم كمصدقين أو كمتواطئين عبرها تحسباً لهذه اللحظة بالذات، التي أنبأ عنها تيار عارم وليد، انبثق من تونس. من هنا اشتبه على الكثيرين تكتيك النظام الواعي والمدروس بتحوله، بل بثباته، والمبالغة بما "لا يصدقه العقل": هل هناك من يصدق هذا الإعلام بما يرويه؟!. لم يكن هذا الشاغل الرئيسي للنظام، أي أن يصدقه من يطرح هذا السؤال، بل كان يهمه بالدرجة الأولى: "من يصدقونه".

لم تعد المعركة عند هذا الإعلام بينه وبين الثورة بالشكل الصريح، بل بينه وبين الثورة على جمهوره (أكبر التحديات التي واجهت الثورة) وبمعنى أكثر توارياً: بينه وبين جمهوره بالذات. وعلى نتيجتها سيتوقف مصيره. هكذا مثلاً يروِّج إعلامُ النظام في الأيام الأولى من الثورة لمقطع قال إن كاميرا "المركز الإعلامي في درعا" صورته -من مبنى المركز نفسه- لمسلحين يطلقون النار على المدنيين العزل. وعلى التوازي يَعرُض "نماذج" مرعبة لجرائم قال إن "المسلحين" ارتكبوها، كجريمة قتل العميد "عبدو التلاوي" وابنيه وابن أخيه في "حمص"، أكثر المناطق عرضة للتأجيج الطائفي، مع الإمعان في تصوير أوصالهم المقطعة بلقطات قريبة. أما فيديو مقتل نضال جنود في بانياس الذي "حصلت" عليه قناة الدنيا "غير الرسمية"، فسيَظهَرُ فيه المجرمون بلحمهم وشحمهم وفي أيديهم السكاكين متحلقين حول "الشهيد" المدمى. ستتابع عين النظام معركتها على مَن تبقى مِن جمهورها، وتشدد من إحكام الكادر على محتواه وبالتحديد في المشاهد المصورة في البيئة الموالية، تلك المقاطع "المضادة" لكاميرا الثورة والتي نشأت بنشوئها، مع اضطرار عدسة النظام لأن تنقسم وتتعدد (ابتداءً بقناة الدنيا) مع التهديد المتربص بأن يطالَ الانفلاتُ "الجمهورَ"، وسنلاحظ في الوقت عينه الذي تحاول فيه الصورة تأطير محتواها كيف يصارع هذا المحتوى إطاره في معركةٍ مريرة وعميقة، محاولاً أنسنة ذاته في المجتمعات التي تدعى مجازاً "موالية".

عندما بدأت محطات التلفزة الرسمية بعرض جنازات "الشهداء" حرصتْ كما حرص المسؤولون الرسميون الأمنيون على "فرض" صور الرئيس عليها، مع تواجدٍ للبروتوكولات "المهيبة" بما يعلو فوق الطقس الاجتماعي للتشييع في تلك الأصقاع، ويجثم عليه. في مشاهد تلك الفترة بالذات في بدايات الثورة عندما كانت الشبهة لا تستثني النظام كمصدر لقتل شهدائه، يمكن للمتابع قراءة الرعب المرتسم على وجوه أهل الضحية وذويها، ليس فقط من هول الموت والفقدان، هو فوق ذلك صراع بين هذا وبين قامعه ومؤطره ضمن كادر ينفي إنسانية الضحية قبل ذويها مهدداً إياهم من خلال الحضور الصريح للنظام في الجنازة والكادر/العدسة والشاشة، بالرعب المتواري والمباغت إياه، إذ في الوقت الذي يُهتف فيه في جنازات الناشطين للشهيد، يهتف هنا للرئيس.
كانت تلك اللحظات حاسمة بالنسبة إلى النظام لترسيخ حكايته الخاصة عن الثورة لدى "مواليه" والتي لن تَثبُتَ صحتُها إلا ببذل المزيد من دمائهم، وتصوير هذا البذل وفق التكتيك الإعلامي ذاته. حتى تنضج الظروف لحسم "هوية القاتل" بتشكل "جماعات مسلحة" معلَنة تابعة للثورة. مستفيداً من إرثه السابق في "الكتم"، وقدرته على الاقتصاد في تمرير المعلومة، أو الخبر، لجمهوره تحديداً، كما قدرته على تنظيم وضبط "القتل".

أبو يعرب مواجهاً أبا يعرب
ضمن هذا الإطار حصلت "مجزرة جسر الشغور" إحدى العلامات الفارقة في تاريخ الثورة. تعددت الروايات حولها لكنها أجمعت على أن ضحاياها تجاوز عددهم 80 عنصراً من عناصر النظام، حوصروا لعدة أيام دون وصول دعم حكومي وقد نفدت ذخيرتهم. لدينا في هذا الخصوص مقطعان صورا من الطرف الموالي، أولهما منشور على يوتيوب بعنوان "مفرزة الجسر" لا يتجاوز طوله ثلاث دقائق، نشاهد فيه مجموعة قليلة من "العناصر" المتهالكين على سطح بناء في منطقة موحشة. تضعف في هذا المقطع الروح المميزة للمقاطع المعروفة عن "الشبيحة". وإذ يحاول من يصور (أبو يعرب) الاستمرار بترسيخ "الرواية" وتصديقها في آن، نراه يخاطب أولاً أكثر الجنود في المشهد إحباطاً للشد من عزيمته: "بو حسن خلي السلاح صاحي لفوق بو حسن!! ارفع البارودة..." لكن أبو حسن يشير بيده متبرماً ورافضاً كي يعفّ عنه المصور، ليبقى متوارياً خلف الجدار الواطئ -يدير ظهره إليه- كما بقية رفاقه الذين ترصدهم العدسة. ينتقل "أبو يعرب" إلى آخرين أكثر استجابة: "أهلا بأبو كامل.. رجال الوطن! حماة الوطن.. أهلاً برجال الأسد.. هلا بوحسين.. أهلاً بو علي إي ارفاع البارودة أيواه إي حياك إي هاه لعيونك.. رجال الأسد ما بتهاب الموت منتصرين بإذن الله" لكن أبو علي الذي يرفع بندقيته بتراخٍ مسايراً مخاطبه يضطجع متهالكاً دون قوة خلف الجدار.. " أبو يعرب" يضحك ويهلل للإنتصار. سنلاحظ هنا الشرخ، والفجوة العميقة -التي ليست بلا مغزى في تلك الفترة المبكرة نسبياً من الثورة- بين منطق "عين النظام" والمضمون الإنساني لمحتوى الكادر، يتوضح هنا بسبب الظرف الخاص والمريب.  في النهاية يصور أبو يعرب نفسَه لتأكيد ما حاول الإيحاء به، يأخذ أحدهم الكاميرا (الموبايل) من يده متابعاً مهمة تصوير "المصوِّر". يحاول المرصود (صاحب المادة المسجلة) الآن وقد أصبح تحت مرمى عدسته المنسلخة شيئاً فشيئاً عن "عين النظام" إكمال التثبيت ومتابعة مهمة حصر المحتوى الإنساني للكادر ضمن إطاره من موقعه هذه المرة، محاولاً الرقص مع بندقيته مغالباً خوفه على أنغام أغنية "تعبوية" صادرة من موبايل آخر؛ لكن سرعان ما "يمازحه" المصور "الجديد" العارف بما يشعر به صاحبه: "إجوك الشباب" وكلمة شباب هنا يُقصد بها –عادةً- رفاقهم أي "الدعم"، يتابع الراقص حماسه محاولاً فكَّ إشكال اللفظ المبهم، لكن المازح سرعان ما يعاجله بعبارة توكيدية تحسم الأمر: "أجوك الشباب من تحت" أي المسلحين. يتهادى"رئيس المفرزة" أبو يعرب ثم يتوقف عن الرقص وقد بدأ جسده يرفض مسايرته، ينزوي باتجاه الجدار، ويطلق عبارة تعارض في جوهرها تكتيك "الكتم": "ما منخلي كلب منهن إذا إجو علينا" يتابع مصوره الإفشاء بعبارة ملتبسة أخرى: "بدعاء الأئمة".

ستجابه "عين النظام" هذا المقطع بمقاطع بديلة، نُسخ معدلة من تسجيل أبو يعرب إحداها تنشرها "شبكة دمشق الإخبارية-إعلام المجتمع الأهلي في سوريا" يتم فيه تسريع الحركة في تسجيل أبي يعرب. وآخر بعنوان "بخاطرك سيدي" إهداء إلى روح شهداء مفرزة جسر الشغور" تقدمه "مجموعة نسور الأسد" هذه المرة بمرافقة ما يشبه القصيدة الحماسية، يستفيد المقطع من "اللقطات" المسرَّعة المستخدمة في المقطع المذكور آنفاً، ويزوِّرُ حركة "بو حسن" الرافضة في الحدث الواقعي لتترافق مع جملة يقولها "المنشد" لتعطي معنى مختلفاً تماماً :"نحنا عا آخر نفس ما ممنهار"، مع إقحام متكرر لصور بشار الأسد، ومسيرات مؤيدة له، واستعراضات للجيش النظامي، بما يمكننا تسميته بإسهاب: إعادة تركيب للرواية "الأزلية" لعدسة النظام المتهالكة في التسجيل الأصلي.
المقطع الثاني، المنشور بعدة مسميات منها "أم علوية ترثي ابنها الجندي الأسدي على قبره" يُظهِرُ لنا ما يتجاوز مجزرة الجسر وحقيقة ما جرى فيها، سيذهب عميقاً في الكشف عن ضمير البيئات الموالية، وسيبارز "محتواه الإنسانيُّ" بكل قوة "عينَ النظام" المتجبرةَ وسيناور ويلف على الإرث الإعلامي القائم على "الكتم" والمواربة: في هذا المشهد "الحلم" وفي ذروة الرعب الذي تعيشه البيئة المقصودة، سيتكشف ما له صلة باللاشعور الجمعي تحت وطأة الموت ومناخ التشييع، بما يشبه مشهداً مسرحياً خيالياً، لا يعكر صفوه إلا وجودُ الكاميرا، وحضور النظام في أذهان الحاضرين، إلا أن هذا الحضورَ عينه هوَ علة وجود هذه الدراما. الأم تجلس إلى القبر وتغني نادبةً فقيدها، ترد عليها من خلفها امرأةٌ واقفة لن تذكر الشهيد بقدر ما تذكر جسر الشغور و"الخنازير" بما يعكس فهمها وترجمتها لمقولات النظام "العلنية"، تُماشيها الأمُّ وتدعي "عليهم" بالحرق، ليُفسَحَ لها المجال في متابعة غنائها النادب، ورويها الخاص لما يعتلج في دخيلتها. تخبرنا هذه الثكلى بغناء ركيك وبكلمات شديدة الواقعية في البداية كيف أن ابنها اتصل بها من هاتفه النقال وكان يبكي، لتسأله إن كان ذلك بسبب إصابته؟ فيجيبها إن السبب نفاد الذخيرة. يستدرك المجتمعون وخصوصاً من المنتبهين لوجود "عين النظام" ويحاولون إسكات الأم وحملها على المغادرة بذرائع مختلفة، لكن الأمَّ التي تلتقي عيناها "بالعين ذاتها" وترى من خلالها أعيننا "نحن"، تصر على الاستمرار: "بس هالموال". لتكمل مصعدةً الدفق الشعوري بما يشبه إبداعاً صرفاً محمَّلاً بقيمة أخلاقية خاصة هذه المرة، محوّلةً عين النظام إلى كاميرا مخرج سينمائي فضولي صاغرٍ أمام جبروت "المؤدية"، أو إلى كاميرا ناشط ينقل حدثاً من قلب الثورة ذاتها، تتجه بالروي إلى "أبو بسام" بجوارها من كان يحاول إنهاضها، وتبدأ من جديد: "قالي بجسر الشغور بدهن يقتلونا.. وست أيام ما سعفونا يا أمي" يحاولون إنهاضها من جديد، تتابع بقوة الكلمة والتصوير والغناء والوقع: "على حمص يا إمي شيعونا... وعلى مقبرة الشهداء إجوا قبرونا... وعلى رتبة ملازم رفّعونا... وصاروا حراس -بعد ما متنا- يحرسونا".

النظام "ينتصر"؟
سيتمرس النظام تباعاً في مواجهة الانفلاتات الجانبية من ربقة عينه: عدسته وشاشته، وسينشر على سبيل المثال مؤخراً، مقطعاً ممهوراً بختم "الدفاع الوطني" بعنوان "تشييع الشهيد البطل المجاهد علي وجيه شدود" وهوَ المتهم بارتكاب مجازر بانياس: لن نرى في هذا المشهد الذي يبلغ طوله عشر دقائق ذوي الفقيد يبكونه كما يشتهون، ولن يظهر من "قد يكونون أهله" إلا لماماً لثوان قليلة، سيغيب هنا الصراع المرصود سابقاً، لصالح عين النظام، وحضوره بقوة في الجنازة والكادر معاً، حيث يغلب الزي العسكري بين حشد المشيعين ولا يترك صوت الرصاص مكاناً لأي جدل حتى لو كان ضمنياً، ذلك يحسمُ وجودَ بشار ونظامه فوق جمهوره، لكن الملفت حقاً في هذا التسجيل أنه بعد أن ينهي الخطيب عبر مكبر الصوت هتافاته لبشار بـ: "علّي الصوت علّي الصوت.. مع بشار حتى الموت" يحثُّ الجمهورَ على نشر ما يصورونه على "الإنترنيت واليوتيوب والفيسبوك".

لم يَظهر أناس "المجتمع الموالي" في مقطع أبي يعرب ومقطع الأم الثكلى كشبيحة، على الشكل الذي روجه النظام، وهذا كان أحد مكامن الخطورة على سلطته، ففي الوقت الذي دأبت فيه عين النظام على تصوير معارضيه على أنهم إرهابيون سلفيون منذ البداية، سعت في نفس الوقت لإظهار مواليه أو من هم "إلى جانبه" على أنهم "شبيحة"، بهدف إسباغ صفات عامة ونمطية على أطياف مجتمع بأكمله تفقدها تفرداتها، أو "تكتمها" تحتها بما يحقق شرخ المجتمع وفق تقسيمات مصمتة تواجه بعضها، لا يمكن لها التواصل فيما بينها من خلال المشتركات الإنسانية.

يمكننا القول في النهاية، إن أحد أسباب "احتواء" النظام للثورة وامتصاص موجة الصدمة التي أحدثتها، كان النجاح في تحويل عينه إلى أعين: عدسات وشاشات. وفي التمرس المضطرد في ابتكار وسائل تثبيت الإطار على محكوميه، بالإصرار المستميت على انتهاج تكتيك الكتم برغم كل الفظائع المرتكبة والتي رآها كل العالم، بالتوازي مع عمله على الأرض وإراقة دماء مواليه، فليس ما يرشح من "موبايلات" الشبيحة بعدئذٍ إلا ارتكاباتٍ فرديةً فحسب. لقد أدرك أن هذا الكتم "الرسمي" سيكون له جمهور كامن ليس فقط بين "مواليه" المهزومين تحت بسطاره، بل إن الوقائع فاجأتنا بجمهورٍ صرنا نسمع صوته من خارج الحدود شرقاً وغرباً، بتواطؤٍ صريحٍ، أو "كتيمٍ" من قِبَل ألدِّ أعدائه "في العلن".


تم كتابة المقال لمؤسسة بدايات ضمن سلسلة مقالات تنشر تباعاً عن مواضيع مرتبطة بالثورة السورية وعلاقتها بالصورة.
 

 

المشاركة
عرض المزيد