مقالات بدايات
الصورة للفنّانة جمانة منّاع

الصورة والعنف

21/02/2018

الفن لا يصبح سلعة فقط في لحظات الانتقال؛ ولكن عندما ينسلخ عن محيطه وعن الإشكاليات التي يتعاطى معها لصالح اعتبارات رافضة للنقد وللقوة السياسية الكامنة في العمل الفني.

الكاتب: رنا عيسى

 

يرتاب الكثيرون من العاملين في الحقل الثقافي اليوم من اهتمام سوق الفن العالمية بفنانين ينتمون إلى بلاد منكوبة. يتهمون السوق بتبديل ذائقته الفنية لمجاراة مأساة "آخر طرز". يغارون على بلادهم وقضاياها من التسليع الحاصل عندما يحدّد السوق قيمة الفن والفنان بحسب كمية المأساة التي يمثلها في فنّه. يقوم التسليع على اختصار هذا الفن بالمأساة فيحجب عنه القيمة النقدية ويؤطره ك untranslatable أو كموضوع يبقى عصي على الترجمة، كتلك المأساة الآتي منها.

 

اليوم جاء دور الفنان السوري في تورّطه بسوق تستدرجه للمشاركة فيها ولكن تحجب عنه فنون النقد والتشبيك بين العمل والعالم. يكتب أبو نضارة في مقالة نشرها على موقع "دوكيومنتا" أنّ الفخّ اليوم يستتر في حب السوق للمآسي: "الفنانون لا ينتجون الصور للتفاعل مع حاجات مجتمعاتهم ولكنهم يحاولون مجاراة حاجات السوق وقانونه الذهبي بأن ما ينزف يتصدر."

 

 في التصدي لقوة السوق، يدافع أبو نضارة عن الكرامة كقيمة مشتركة في تمثيل البشر وترجمة مأساتهم في أعمال بصرية.  المشكلة كما أراها ليست بكمية الدم المنزوف وإنما بالأشكال التي تسحب العنف من السياق التاريخي المؤدي له.

سأحاول في هذه المقالة إخراج النقاش من حلقة الصورة الصحفية والتوثيقية التي تناولها أبو نضارة لأعالج الموضوع من خلال النظر في سوق الفن، منطلقة من معرض أقيم مؤخرا في العاصمة السويدية ستوكهولم فيBonniers Konsthall   في أواخر السنة الماضية لأعمال فنية تتعاطى مع مآسي وحروب من مختلف أنحاء العالم ومن حقبات مختلفة من التاريخ المعاصر تحت عنوان: "صورة الحرب" قام بجمعه ثيودور رنغبور.

 

 سأعيد -من خلال مراجعة المعرض- النظر بفكرة التسليع خصوصا كما حددها المفكر الهندي أرجون أبادوراي عندما وصف السلعة بالشيء الذي يدرس في لحظة انتقاله من المنتج إلى المستخدم. كما أجادل هنا أن الفن لا يصبح سلعة فقط في لحظات الانتقال؛ ولكن عندما ينسلخ عن محيطه وعن الإشكاليات التي يتعاطى معها لصالح اعتبارات رافضة للنقد وللقوة السياسية الكامنة في العمل الفني. السلعة كما تحددها الرأسمالية هي شيء ذات منشأ معلوم ولكنه تخلى عن عمق العلاقة مع أصله من أجل المنافسة في السوق العالمية.

 

مع كثرة الأعمال يخيل للزائر أن جميع الحروب الحديثة ممثلة في هذا العرض. ترافق الأعمال نصوص مقتضبة عن كيفية الإنتاج وعن الوضع السياسي الموّلِد لها. الفنانون المشاركون عالميون: منهم من دخل التاريخ الفنيّ ومنهم من هو أكثر حداثة في مسيرته المهنية. يضم المعرض أعمالاً لبرتولت بريشت وفيل كولينس وربيع مروة وإيمان عيسى وجمانة مناع وغيرهم من الفنانين العالميين والعرب.  تجمع الحرب هذه الأعمال كثيمة تتكرر في المعرض في أشكال وأجناس فنية مختلفة. من التصوير واللوحات الزيتية إلى الفيديو والنصوص والانستاليشن والمنحوتات، يقوم المعرض على التأكيد بأن الحرب حاضرة دوماً في الأعمال الفنية.

 

كان رهان ثيودور رنغبورغ على قلب معادلة السوق المستهلك للمآسي واستحضار أعمال تبدّي العنصر الفني على الوضع التاريخي. رنغبورغ يكتب في برنامج العرض بأن الأعمال تسمح لنا "بمسائلة سياسة الصورة واكتشاف طرق جديدة في النظر إلى العنف." يتعامل رنغبورغ مع العنف كأنه غاية الصورة فيطمس لنا كيف تولدت هذه الأعمال في مساقات سياسية حية حيث كان العنف يُستعمَل كوسيلة لإخضاع شعوب ومجموعات لغايات الآخرين الأقوياء.

 

يشمل المعرض عدد لا بأس به من الفنانين العرب ومن الأجانب المهتمين بالشأن العربي، وهو ما يساوي نصف الأعمال المعروضة تقريبا. فالأحداث التي تعصف بالمشرق على ما يقارب ستة أو سبعة أجيال الى يومنا الحالي، تتناسب مع النظرة التقييمية. فيشمل المعرض هذه الأعمال لهويتها ولكن يضعها خارج الإشكاليات السياسية التي يعبر عنها الفنان من خلال المنتج الفني. رنغبورغ في المقابل لم يهتم بأسباب الحرب، فهو كما كتب مهتم بالصورة ويعتقد بأن كيفية النظر إلى العنف هو البرنامج السياسي الأساسي:

"وهذا البرنامج السياسي قائم على إحساس المشاهد بأنه يجب عليه أن يصبح جزءا مما يحصل وإدراك وجع الآخرين واحتياجاتهم. ولكن على المشاهد أيضا أن يرى خارج هذا الإطار الذي يختصر العلاقات الاقتصادية والسياسية بعلاقات إنسانية حيث يظهر وجع الآخرين وكأن العالم تراجيدي ويعمل على هذا الأساس."

 

عند قراءة هذه الأسطر، يمكن الاعتقاد بأنّ المعرض قد اهتم بالعلاقات السياسية والاقتصادية لإنتاج الصورة مثلا، ولكن هذا لم يحصل. فالمعرض المقام في غاليري تابع لأكبر شركات الإعلام في إسكندينافيا، البونير غروب، Bonnier Group، لم يجرب حتى أن يفتّش عن كيفيّة انتقاد بعض الأعمال المعروضة لسوق الفن وقوانينه.

في منحوتات الأميركي من أصول يهودية-عراقية "مايكل راكوفيتز"، تتكوّن معالم سوق فنيّ على تخوم الحرب حيث سُرقت الآثار من المتاحف العراقيّة وبيعت في سوق سوداء لمقتني فن أثرياء أو يعملون لدى متاحف ثرية. يستخدم راكوفيتز زبالة مستوردة من العراق لإعادة إنتاج أعمال سُرقت من المتحف الوطني العراقيّ وبيعت في سوق الفنون السوداء. في وضعها خارج إطارها النقدي، يختزلها المعرض بأنها عن صورة العنف. هكذا وبدون سياق فني يجعل رينغبورغ هذه الأعمال تحاكي عمل وليد رعد مع الأطلس غروب عن الأرشيف المخترع للحرب اللبنانية!

كان من الممكن ضم العملين بشكل مغاير يتيح لإشكاليات الأعمال أن تربط بين العمل الفني كتعبير نقدي يبرز إشكاليات هذه الحروب وتناقضاتها. لكن فكرة المعرض تحبس الأعمال في مفهومين عنيدين في لا تاريخيتهما: "الصورة" و"العنف". وهكذا تنسلخ الأعمال عن معناها السياسي فتنسلخ أيضا عن أهميتها الفنية. عند قائمين آخرين، كان يمكن للمشاهد أن ينتبه كيف توظّف أعمال راكوفيتز ورعد قذارة الحربين العراقيّة واللبنانيّة من خلال محو التضادّ بين الخيال والحقيقة، فيعيد راكوفيتز ورعد بناء علاقة مع ضحايا العنف في العراق ولبنان، لا بكونهم "موضوع الصورة" كما يعتقد رنغبورغ بل كفاعلين خارج الصورة ينخرطون في صراعات وينتجون أطراً جديدة للعلاقات البشرية. فالعنف في هذين العملين، ليس إلا إحدى وسائل الصراع على الاقتصاد والسياسة في العالم.

رونغبرغ صب اهتمامه على ثنائية الصورة كقالب والعنف كمعنى. لا شيء آخر جمع بين الأعمال؛ فكان المعرض بلا توجه نقدي عن القيم الفنية التي ينتجها الفنان في تعاطيه مآسي الحرب. لا مكان للسؤال هنا، فالقائم على المعرض كان يركز فقط على إنتاج ثنائية العنف والصورة. هذه الثنائية هي ما بعد حداثوية بامتياز، بحيث تعتبر مجمل الأعمال الفنية "الصور" كأنها مفردات مختلفة لمعنى واحد عن العنف. فتتشتت الأعمال في الصالة بازدحام شديد، ممل أكثر مما هو مثير للخيال. العنف يتصدّر والدم دائماً أحمر مهما اختلفت الأسباب.

 

ينتج المعرض صورة الحرب كسلعة، فتصبح صالة العرض "سوبرماركت" حروب نعرف ما مسّنا منها، وأما ما لم يمسنا فبالكاد أتذكر في أي بلد وقع. تنساب كامبوديا بسوريا والعراق برواندا، لأنّ ما حصل هناك عنفاً، عنفاً خامّاً. هو عنف كأنه حاجة في نفس يعقوب بدلاً من أن يكون كما كتب والتر بنجامين "وسيلة وليس غاية في العلاقات السياسية والقانونية بين البشر". يطغى، كما كتب بنجامين، على المفكرين بالعنف الانطباع بأن العنف نفسه هو الغاية فيحاولون فهمه فيقعون في الضبابية في التحليل. ينتج عن تلك الضبابية مفهوم عن العنف الأسطوري وهو عنف يؤكد على وجود الآلهة فلا ينتقدها. فالعنف كعنف لا يغدو سياسياً بدون سياقه التاريخي. أما اختزال المواضيع المهمة التي تعالجها الأعمال بكون الفن "صورة" يكتب هذه الأعمال أيقونة مكررة، مبهمة في دلالاتها، وعصية على التحليل.

 

إن المشكلة التي تواجه الفنان اليوم لا تكمن في التعريف المكاني، بل في إفراغ هذا التعريف من المعنى. ففي معرض "صورة الحرب"، يصبح اسم سوريا أو كمبوديا أو فيتنام مرادف للعنف، فيساهم المعرض بالتغطية والإبهام السياسي الذي أصبح السمة الأساسية في تعامل العالم السلمي مع العالم الحربي: فالسلميّون يعتقدون أنّ العنف من مواهب عالمنا ويرفضون النظر في الأوضاع السياسيّة والاقتصاديّة العنيفة، والغاية المرجوّة من هذا العنف. في هذا السياق، إفراغ الأعمال الفنيّة من دلالاتها السياسيّة وطروحاتها الفنيّة لحساب العنف هو عنف أيضا يمارسه أصحاب الجاه والمال على أعمال فنيّة كثيفة في نقديّتها وعمق حسّها التاريخيّ.

المشاركة
عرض المزيد