مقالات بدايات

الكاميرا والسموبال

11/06/2015

إن التصوير والتوثيق مسألة خطيرة تشبه خطورتها "السومبال" المتدلي على كتفي. هذا السلاح  يطلق عليه اسم  "الغدار" لعدم وجود زر أمان فيه، فقتل الكثير من المقاتلين الذين حملوه. الكاميرا تشبه هذا السلاح.

الكاتب: عروة المقداد

المصوّر: عروة المقداد

 

سقطت السماء، مزقت الشفرات الصدئة طبقات الهواء المشبع برائحة شواء أجساد تحترق بالمدافع والنابالم. المباني المتشابكة بحراب البنادق تئنُّ في جوف الليل البهيم، تشتعل بالصراخ المتواصل لأناس لا سبيل لديهم للحياة سوى تمزيق بعضهم البعض. 

كانت السماء تهوي مع سقوط البرميل. المسافة بينه وبين الرشاش والأجساد اليانعة أقل من المسافة التي تفصل العدسة (٥٠) الموضوعة في الحقيبة عن العدسة (٥٥) الموضوعة على الكاميرا. سبعة ثوان يحتاجها البرميل للسقوط كما أحتاج لتغير العدسة ١٠ ثوان، فالعدسة الضيقة ذات الفتحة الواسعة، تتيح للضوء الدخول أكثر واشباع التفاصيل على الوجوه الحالمة في إغماضتها على رغبة النجاة.

ماذا لو سقط البرميل علينا؟ ماذا لو بقيت الكاميرا دائرة داخل الجحيم؟ ماذا لو سال الجلد عن الغلالة الرقيقة المنضوية داخلنا، لتظهر المشاعر واضحة شاخصة للعيان، محملة بالغبن والألم فتتسرب ذرات الجسد من خلال الضوء إلى الغرفة المظلمة لتنتقل إلى الشاشة المسطحة والعين التي تراقب باسترخاء تام؟

 

سألت نفسي وأنا أحدّق بجذوة النور المتعرجة، مالذي يمنعني من حمل الرشاش والتوجه نحو أقرب نقطة اشتباك، لا تبعد سوى ٤٠٠ م. إنها الرغبة بالانتحار ولا شك. الرغبة بإنهاء الحياة بطريقة سريعة وذات قيمة ما. طريقة درامية تصلح لأن تكون نهاية فيلم طويل بدأت بصناعته منذ مدة طويلة ولم ينتهي حتى هذه اللحظة! أين يبدأ الفيلم وأين تنتهي الحياة؟ 

 

لم تكن مسألة حمل البندقية بحد ذاتها هي الإشكالية. كنت أحمل رشاش ربما يعود إلى الحرب العالمية الثانية. مسدس رشاش طويل يدعى "سموبال". أعطاه لي أحد الأصدقاء بعد قيام تنظيم الدولة باغتيال وخطف العديد من الأصدقاء، فلم تنجينا إلا الصدفة المحضة. لم يكن لدى أحد منا الرغبة بالموت مُقطّع الأوداج. أخفيت الكاميرا حينها وعلقته على كتفي الناحل. لم ترجف يدي فلم تكن تلك هي المرة الأولى، لكن رجفت العيون بطريقة سينمائية، جعلت من المدينة بحد ذاتها "لوكيشن" تصوير يخضع لتجريب مستمر في العواطف وأشكال الموت. 

 

لم يكن "السموبال" غريباً عن التصورات، التي نبعت من انعطاف جذوة النار مع نسمات باردة هبت في كل مكان، ورشمت الأحمر على الوجوه لتنصبغ بلون الدم. فالرشاش كان في مكانه الطبيعي في هذه الحرب. الغريب عن هذا المشهد هو الكاميرا. كانت الآلة الصغيرة مرمية بطريقة درامية إلى جانب السلاح، الفوهة مصوبة نحو وجهي، فيما العدسة موجهة نحو الفضاء. 

 

أدرت الفوهة المعدنية نحو الجدار، وأغلقت العدسة التي تسجل تدفق زمن لا يعني أحد سوى القابعين في تلك الغرفة. جدران متهاوية في حي فقير. يدخل عناصر تنظيم الدولة. أشعل الكاميرا مرة أخرى بثبات. أنقل ناظري بين الشاشة والوجوه الفزعة. يمتزج الأحمر بالبرتقالي الطافح من "السراج". يوغل النصل في رهافة الجلد، تميل الجفون إلى حزن رخيم، تتقلص الرموش بإجفالة عتب وصراخ مبحوح. تميل الأذرع خارج الكادر الثابت. وتهوي مرة أخرى داخله فتتطاير الأشلاء. داخل الشاشة لا يوجد صوت. فقط الشفرات تصدر صرير حكها بالعظام الهشة. وتفتر الأسنان بابتسامة حمد وشكر لإله المقصلة. السواد يتداخل ليشكل فضاء زئبقي مع الأحمر القانئ. ينفر الدم على العدسة. تحجب القطرات النافرة الملامح التي أخذت الشفرات بتغيرها. يسيل الدم حتى قدمي، ويهبط السواد على عنقي فتغرق العدسة ويحتجب الكادر .. 

 

مشاعر متناقضة في افتراض مشهد سوف يحدث في أي لحظة، وكان الخوف مشوباً بقلق على الأصدقاء اليافعين الذين كنت أقيم في منزلهم. لم يعد التفكير في الموت بقذيفة أو ببرميل أمر مفزع، فذلك أمر أخضع للتجريب مراراً وبالتالي أخضع لقبوله، ولكن أن تتخيل موتهم بهذه الطريقة الوحشية أمر مفزع يفوق الاحتمال. 

 

رحت أفكر، وذلك المشهد يتكرر في رأسي، في طبيعة ما هو سينمائي؟ كيف من الممكن خلق ما هو سينمائي بعيداً عن التوثيق الجاف على اعتبار أن ما هو سينمائي أرفع قيمة من التوثيق المجرد "جمالياً". إن الروائية تبحث عن أبطال، تحتاج لقصة  "بطل" أو "ضحية" وهذه الإشكالية بحد ذاتها تبدو شائكة أمام تصورات أخرى أتاحتها الثورة: فالبطل لم يعد مهماً والدراما لم تعد تتعلق بالفعل الفردي بل بالفعل الجماعي. اذاً كيف من الممكن خلق سينما "فيلم" بعيد عن غواية القصة والبطل كما حدث في كثير من أفلام الثورة السورية؟ كيف من الممكن أن تصنع فيلم عن الحياة يغيب فيه البطل والمخرج لتخرج دراما الحياة " تمجيد الحياة" أمام "تمجيد العنف المفرط كما يفعل تنظيم الدولة في إصداراته".  وكسراً لهذه القاعدة حاولت في مرات سابقة أن أظهر "سوق الشعّار" المحاط بجبهات واسعة وبحواجز لتنظيم الدولة والمتموضع في واحدة من أخطر المناطق المستهدفة في المدينة بالبراميل، كبطل بحد ذاته، على الرغم من وجود دراما ذاتية شيّقة، ولكن كل ذلك أقصي أمام ضجيج الحياة وابتسامات الناس وسط تلك السريالية. وبدت هذه الاشكالية مريرة امام أدبيات المهرجانات وتنظير المخرجين حول طبيعة ما هو سينمائي.

 

أثناء التفكير بفيلم وثائقي طويلي يحاول الجمع بين ما هو سينمائي وما هو سحق لطبيعة البطولة والذاتية المفرطة، واجهتني اشكالية أخرى، فالفيلم يخضع للإعداد، كيف من الممكن الحديث عن إعداد مشهد في ساعات المواجهة مع الموت؟ إذ إن الانطباع السينمائي يُخلق من نظرة مسبقة وانتقائية، تعيد فيها خلق الواقع من خلال عمليات الإعداد والتصوير والمونتاج. اذاً ما هو سينمائي يخضع في النهاية للجمالية، كيف من الممكن اذاً أن يلتقي ما هو جميل مع الموت؟ 

 

إن التصوير والتوثيق مسألة خطيرة تشبه خطورتها "السومبال" المتدلي على كتفي. هذا السلاح  يطلق عليه اسم  "الغدار" لعدم وجود زر أمان فيه، فقتل الكثير من المقاتلين الذين حملوه. الكاميرا تشبه هذا السلاح، عندما تضغط الزر الأحمر لتبدأ توثيق الواقع بشكل مسطح منفصل عن أحاسيس الخوف المعقدة التي لا يمكن التقاطها عن طريق العدسة، ولا يمكن التحكم بزاوية التصوير والرؤية أثناء عد الدقائق في مواجهة الموت. الصورة لاحقاً تخضع لعمليات القص واللصق في غرفة المونتاج، كما يقول المخرج الروسي بودوكوفين يبدأ الفن السينيمائي ليس بهدف خلق صورة حقيقة عن الواقع وانما لتحويل الواقع إلى مادة سينمائية.

 

عادت إلى ذاكرتي مشاهد من فيلم "المدرعة بوتمكين"، وتحديداً مشاهد المذبحة على سلالم الأوديسة، لقد خلق أيزنشتاين مشهد جمالي عن مجزرة ارتكبها جنود القيصر، ولكن المجزرة في الفيلم أعيد خلقها لتصبح أكثر جمالية لتناسب المشاهد والمادة السينمائية،  ورغم طول المشهد الذي ضوعف عن وقته الحقيقي، إلا أن المشاهد لا يلتفت إلى القتل وطريقته ورعبه وإنما الى جمال المشهد المتقن.  إن اللحظة التي تقرر فيها الضغط  على الزر أمام هول التناقضات التي توثقها تشبه اللحظة التي تضغط فيها على الزناد بشكل عشوائي ظناً منك أنه يوجد زر أمان. تلك اللحظة، لا تخص "المجزرة"*، وإنما "الصناعة". طلقة تجاه الحقيقة التي أردت توثيقها. الحقيقة التي بدت غائبة في كثير من الأفلام على حساب القصة والدراما. 

 

الذاكرة أيضاً بطريقة عملها التي عرفها الانسان حتى هذه اللحظة، تشبه عملية المونتاج في إعادة خلق الواقع. لذا يشترط الفن السينمائي المسافة والزمن من الحدث التاريخي لإعادة النظر فيه. هذه مسألة يفترضها النقاد على أنها جزء من النضج في التعامل مع الواقع، ولكن أعود في التفكير في السؤال حول طبيعة الفن عموماً والسينما خصوصاً ما هو المطلوب من المادة الفلمية: هل عملها وظيفي أم جمالي. بالتأكيد أن المادة السينمائية التي تحظى بالشرطين تكون أكثر حيوية، ولكن السينما أيضاً هي محاكاة لذاكرة الانسان وطريقة تفكيره، فهي تحاول إسقاط الكثير من التفاصيل وهي انتقائية، فالنسيان شرط من شروط استمرار الحياة بشكلها الحالي، لذا تغفل صناعة السينما الكثير من التفاصيل ويقف المخرج على مسافة من الحدث، الذي من شأنه تغييب الكثير من التفاصيل أيضاً.

 

"السومبال" رافقني كما رافقتني الكاميرا في العبور المتواصل بين حواجز الدولة المنتشرة في المدينة. كانت مفارقة عجيبة التي كنت أشعر بها، وودت لو أنه ثمة طريقة توثق تلك اللحظات التي عايشتها بالانتقال من المنزل العربي البسيط نحو جبهة طويلة مع النظام، مروراً بحواجز تنظيم مرعب، تحت سماء حبلى بالبراميل والقذائف، على كتفي حقيبة وضعت فيها كاميرا صغيرة وعلى الطرف الآخر تدلى رشاش من مخلفات الحرب العالمية الثانية. كانت ملامحي تشبه المهاجرين مع لهجتي الجنوبية الثقيلة التي كانت ككلمة سر سحرية تكفلت بعبوري تلك الحواجز.

 

إن التناقض الأكثر بعثاً على التفكير، في كل ذلك هو حالة المراقبة التي يعيشها المصور دون أن ينخرط بالحدث. ذلك بالضبط ما يبدو أنه يثير المشاهد فالمصور عين خارجية غير متورطة بالحدث، كما أن المشاهد، وإن كان منحاز لطرف ما، لهو أيضاً مشاهد خارجي يتفرج على حدث من زواية شاهد عابر. فإذا كانت السينما التي تدفعنا بجماليتها للتعاطف، كيف من الممكن توريط المشاهد العادي أو الناقد في الحدث الذي صيغ أساسا على أنه حيادي؟ عندما أضع الكاميرا على زاوية الياسمينة بالقرب من باب مزقه سقوط برميل بحضور ٣ شباب يتقاسمون أخلاقهم ومحاولتهم الصمود في مواجهة العنف، كيف من الممكن أن يتدفق الزمن بكثافته إلى الشاشة المسطحة مع هدير برميل يحرق طبقات السماء ويحيلها إلى نار مرعبة؟ 

 

رشاش الحرب العالمية ملقى على الأرض إلى جانب جسدي الهزيل، نهتز أنا وقطعة الحديد تلك على إثر تقدم دبابات النظام التي لا تبعد سوى ٥٠٠ م. ينهض الفجر مع نهوض الجنود وتنهض الحرب بجنازير الدبابات التي خلفتها الحروب العالمية …،  وثقت تلك الحروب كاميرات من السماء والارض. آن ذاك قام العديد من المخرجين والمصوريين باستخدام كاميراتهم على أمل أن تتوقف، وأن تتحول إلى درس يتعلم منه الإنسان. ولكن هاهو المشهد يتكرر، كما لو أنه معد مسبقاً: كاميرا ورشاش وضحايا وقنابل أكثر فتكاً، وجمهور بات يحدق بالعنف المفرط كجزء من المتعة. السؤال الذي طالما راودني في تلك اللحظات القاسية ما الذي ينبغي أن أصوره ولمن؟ ما هو المهم في الكادر؟ وما اللذي يجب أن أنتقيه وماذا يجب أن أبعده ليتناسب مع من هو جالس في منزله ليتفرج على فيلم أو مسلسل؟ ما هو المهم لناقد يقيم الصورة تبعاً لتدفق الحدث وسيولته والرؤية الإخراجية؟

 

لم تغيّر الأفلام في طبيعة ما يحدث إنما استمر فعل الفرجة. فما هو مهم، هو ما يوجد داخل الكادر وليس ما هو موجود خارج الكادر بالمعنى الواقعي. فنحن معدون مسبقاً لنرى ما يريد "المخرج" أن نراه داخل الكادر كأناس تراقب من زاوية خارجية! وبالتالي كيف من الممكن صناعة سينما أو فيلم يغيّر زاوية الرؤية تماماً؟ هذه مسألة معقدة ربما لا تتعلق بالسينما فقط، فالسينما لم تنفصل يوماً عن بقية الفنون إنما هي أكثر تصويرية وواقعية… ومن وجهة نظر أخرى إنها أحد أكبر الأدلة على دمويتنا واستمتعانا بالعنف. 

 

*المجزرة: هذه الكلمة في النص لا تخص فقط المجزرة بالمعنى الحرفي وانما أقصد بها ايضاً مجزرة العواطف على اعتبار أن الأذى النفسي الذي يصيب الانسان أثناء كل هذا الدمار هو أيضاً بمثابة مجزرة. 

 

المشاركة
عرض المزيد