مقالات بدايات

دمشق: بين مسدس القاتل وحقيبة السفر

10/12/2014

تراهم وترى الناس العاديين بينهم أيضاً، القاتل والضحية في نفس السوق يتسوقون. القاتل يبحث عن بيت جلد لمسدسه الجديد، والضحية تبحث عن حقيبة للنزوح بهدوء

الكاتب: ليلى الدهر

 

بقيت حائرة  لمدة طويلة، هل أغادر مدينتي دمشق أم أبقى؟ ليس مهماً . المهم أن تفعل ما يجب عليك أن تفعله في أي مكان .

في هذا الصباح الرمادي البارد، أنظر من نافذتي المطلة على قاسيون، أفكر مطولاً، من المؤكد أن هذا الجبل  لن يتحرك من مكانه، حتى ولو كان صديقنا.

هو لا يستطيع أن يفعل شيء للمدافع المركونة عليه والمصوبة فوهاتها الجهنمية علينا .نحن من ينتظرنا هذا الجبل أن نفعل شيء .

 

ربما يمكنك أن تفعل ما عليك فعله خارج البلد، وربما قدرك هو أن تبقى. أن تكون حاجة البلد إليك هي بالبقاء.

لكن هذه المدينة صارت سجناً. كل شارع فيها صار يشبه المهجع، وكل جزء منها منفصل عن الآخر. كحال قاطنيها مسلوبي الحرية، مسجونين في أماكنهم. 

 

لا يتبقى لك وقت سوى للتفكير بماذا ستأكل وكيف ستشرب ومتى ستأتي الكهرباء.

حالة إنقطاع الكهرباء العبثية ولساعات طويلة، لم أفهم يوماً محاولات الناس الجاهدة في تحليلها وخلق مبرراتها وتنظيمها.

يقولون لكَ مثلا: تنقطع من الثالثة ظهراً وحتى السابعة، فتأتي في الرابعة وفي اليوم التالي تنقطع في التاسعة صباحا، لماذا لايفهمون أنه عقاب!،  لماذا هم عالقون هكذا بوضوح شديد في دائرة يومية معقدة مع الكهرباء؟ هل رأيت سجناء يدرسون انقطاع الكهرباء في الزنزانة من قبل؟ ربما من الملل، من العجز!.

 

 في نهاية المطاف، القرار الوحيد الذي يمكنك أن تأخذه في هذا المكان  وبحرية هو المغادرة. أضف إلى ذلك أنني فتاة، لن يوقفها أحد ليسحبها إلى الخدمة العسكرية،  سيدعونها تغادر بكل سلاسة. في الحقيقة هم يريدونك أن تغادر فأنت بالتأكيد ستترك مكانك لهم .

 حسناً، ولكي أغادر يجب عليّ أن أشتري حقيبة سفر، حقيبة سفر تتسع لمدينة قديمة بسبع أبواب، لذا قررت الذهاب إلى سوق الخجا، السوق الوحيد والأخير للحقائب في هذا السجن الكبير والغالي على القلب .

 

بالمختصر المفيد، سوق الخجا هو سوق قديم وأساسي في دمشق وهو عبارة عن مكان كغيره من الأماكن العريقة، ضربته آلة التصحيح البعثية منذ سنوات، حولته إلى مبنى يعتبر حديث وعملي وأهم مافي الأمر أنه يعتبر إنجاز حضاري لنظام خرافي.

 

السوق اليوم مكون من طابقين، يتجمع فيه حرفيون ومهرة مختصين بصناعة الحقائب الجلدية والقماشية ويتاجرون بها. حقائب للسفر، للمدرسة، للعمل، وبكافة المقاسات، معاطف جلدية سوداء، أحزمة، احذية، قبعات،  محافظ .... إلى آخره .

 

في البداية كنت أفكر، كيف سيكون حال هذا السوق الجميل الذي تشتهر به دمشق في هذه الأيام المريرة .

بالتأكيد كباقي أسواق دمشق الأُخرى، الحميدية مثلا، إلا أن الحميدية يقع داخل سور المدينة  القديمة . بينما سوق الخجا يقع في منطقة ساروجة، خارج السور، وهي منطقة شملها تدمير شبه كامل وممنهج من قبل المهندس الدكتور الغيور الفرنسي (إيكوشار) وساعده نظام البعث الأصيل والوفي للمدينة التاريخية التي يحكمها.

 

طبعا دمروا ساروجة الرائعة في صميم المدينة بكل راحة ضمير وبنوا أبنية تعتبر( حديثة )، فائقة الروعة. وكأنه لا رأي لأهل المدينة في مدينتهم. مجموعة من المجرمين الأولاد تهتم بمصالح عائلات ساروجة العريقة والمحترمة .

لم يكتفي أصحاب المصالح من ساروجة، ربما كانوا على وشك تدمير حي القنوات لبناء برج زجاجي لسيد رجال الأعمال في سوريا المهووس بألعاب الفيديو الأستاذ رامي. لا أحد يردعهم، على العكس تماما، المجتمع الدولي بأكمله يدعمهم ويشجعهم، ليبقى الشعب الأصلي والعريق لقمة سائغة في أفواه المجرمين الصغار.

أضف الى ذلك أن اندلاع الثورة الشعبية، سمح لهم باستخدام ألعابهم العسكرية الكبيرة لتسريع عملية التدمير والتلذذ به.

 

وصلت إلى سوق الخجا، وبدأت أتفرج على الحقائب المتنوعة المعلقة، لفتني وجوه الباعة، كعادته التاجر الدمشقي نشيط  ومندفع للعمل. مازالوا يتفننون، يتشاطرون بذكاء تجاري مميز مُحكم ومضمون رغم كل الصعوبات.

 كانت وجوههم متحجرة من الخوف والحزن، تراهم وكأنهم ضائعين بين كم الشبيحة والجيش وملحقاتهم وهم يطوفون كالجراد في كل شارع وسوق ومكان .

 

تراهم وترى الناس العاديين بينهم أيضاً، القاتل والضحية في نفس السوق يتسوقون. القاتل يبحث عن بيت جلد لمسدسه الجديد، والضحية تبحث عن حقيبة للنزوح بهدوء .غالباً الضحايا في السوق من النساء، أمهات تبحث عن حقيبة متينة قدرالمستطاع لتلملم بداخلها ماتبقى من ذكريات ورائحة.
 

البائع الشاب، لبساطته، تحول إلى ببغاء يعيد نفس الإسطوانة عن جودة بضاعته، وهو يواجه بالتأكيد نفس المصير، سيحتاج إلى حقيبة عاجلاً أم آجلاً،  إلا أنه مازال يحاول، يغمض عينيه، يمسك الحقيبة ويقلبها، يضربها بقوة بالأرض ثم يفتل دواليبها ويقول : "دواليب معدنية متينة جداً"، الأم وبناتها  ينظرن إليه بعيون حائرة . 
 

لا تعلم بماذا يفكرون، كما لا تعلم إن كان الشاب البائع يعرف أن هذه الدواليب المعدنية المتينة جداً قادرة على تحمل عبور البحر المتوسط كاملاً بقارب خشبي صغير .
 

 في المقابل، مازال عنصر الأمن حائراً، هل يأخذ بيت المسدس الجلدي الأسود أم البني، يستشير نفس البائع، أيهما أجود؟ البائع يقوم بعمله ويجيب بمهارة مرة للأم وبناتها ومرة للعسكري .
 

"نعم هذه حقيبة متينة مصنوعة محلياً"، "نعم هذا بيت المسدس أصلي مستورد من الصين"، أما أنا أقف بينهم أتفرج ، لماذا لا يطلق النارعلينا جميعاً ويريحنا من هم النزوح والتشرد؟.

المشاركة
عرض المزيد